أن تدخل الجليد لتستمتع بجماله، ودفئه، فكرة غريبة بالطبع، لكن الجولة في فندق الجليد في كندا مغامرة ممتعة، الجدران تعكس لوحات حُفرت فيها، والغرف تحمل أسماء مشاهير أو أبطال الفن السابع...

جلنار واكيم
لم أخطط يوماً لأن تكون البلدان الباردة (وفي عز موسم البرد) جزءاً من السياحة التي قد تثير اهتمامي. كبرت وأنا أخاف البرد، وفي الشتاء كنت أتحول إلى كرة ثلجية تزداد ضخامة مع عدد الكنزات التي كانت تلبسني إياها أمي. كانت تلك حالتي في لبنان. فكيف تكون الحال في بلاد البرد الحقيقي؟ كنت أصاب بالذعر كلما سمعت قصة من قصص اللبنانيين الذين هاجروا إلى كندا، قصة رجل وقع أنفه أمامه فحمله وركض به إلى المستشفى، وقصة امرأة تجمد الدم في جسمها وهي تنتظر الباص... إلى تلك الأماكن، وإلى منطقة كيبيك بالتحديد، تقررت الرحلة في فصل الشتاء. جزء أساسي من الرحلة كان محطة توقفنا فيها، في فندق يُعدّ مفخرة أهالي كيبيك، وهو المبيت في فندق الجليد.
الفكرة لم تكن جذابة عندما عرضت علي في البداية. المكوث في فندق من الثلج؟ لا شكراً أجبت فوراً، أفضل أن أنام في غرفة حرارتها لا تقل عن ثلاثين درجة. قال بعض المرافقين الكنديين: «ولكن الفندق ليس بارداً». سألتهم: «كيف؟ كم تبلغ الحرارة؟» أجابوا إنها خمس درجات تحت الصفر «فقط»!!!
مثّلت «علاقة» رفاقي الكنديين مع البرد «صدمة ثقافية» بالنسبة إليّ. طوال الطريق إلى الفندق تواردت سلسلة من الأفكار إلى ذهني. كنت أتساءل في نفسي «سيكون هذا المكان؟»، تخيلته ضيقاً، معتماً وبارداً. الصورة الوحيدة التي كانت ترد إلى ذهني هي صورة بيوت الثلج النصف دائرية أو «الايغلو» كما تسمى. وتصورت نفسي كشعوب الأسكيمو، ألبس الفرو من رأسي إلى رجلي، ولا يظهر مني إلا وجهي.
الفندق اختلف تماماً عن كل ما أنتجته مخيلتي. المكان ضخمٌ وكبيرٌ للغاية. مكعبات ثلجية ضخمة تخفي مبنى كبيراً. وفي هذه المكعبات مدخل يفتح أبوابه ليُدخلنا في عالم الجليد.
في الداخل انقلبت الصورة، وانقلب الإحساس تماماً. دخلنا إلى الفندق حيث كل شيء مصنوع من الثلج، ومن مكعبات الجليد كاملاً. لا أساسات حديدية ولا حجارة ولا خشب. مكعبات ضخمة تشبه تلك الموجودة في القطبين الشمالي والجنوبي والمتجمدة منذ ملايين السنين. الغريب أنني لم أحس بالبرد بتاتاً. الحرارة تبلغ خمس درجات تحت الصفر، كما أنذرنا أصدقاؤنا الكنديون، الهدف من هذا التبريد هو المحافظة على أجواء تحمي الثلج والجليد من الذوبان. وفي الوقت عينه لا يشعر الزائر الغريب بأي وجود للرطوبة على الإطلاق، وهذا ما يجعل الطقس مقبولاً، لدرجة أننا رفعنا عنا معاطفنا الثقيلة لنسنمتع بالمكان ونتنقل فيه بخفة.



تبلغ مساحة الفندق 2500 متر مربع. وتضم 36 غرفة بينها 10 أجنحة. كما يحتوي الفندق على مركز للتدليك وحانة ليلية وسينما من الجليد. وبين أروقة المبنى كنيسة جُهّزت لمن يريد أن يحتفل بمراسم الزواج في محيط من الجليد. وقد خاض كثيرون هذه التجربة. بإمكان الفندق أن يستقبل 600 شخص. يُعاد بناء الفندق سنوياً في شهر كانون الأول، وتستغرق عملية البناء شهراً. ثم يفتح الفندق أبوابه أمام السياح مدة ثلاثة أشهر. يلزم بناء الفندق 11000 طن من الثلج و500 طن من الجليد... وفي شهور الصيف يختفي المكان تماماً، وكأن شيئاً لم يكن. فندق الثلج الذي يُقام في كيبيك هو الثاني في العالم. الفندق الثلجي الأول بُني في السويد عام 1990، وبعدها بعشر سنوات دشن جاك دوبوا فندق الجليد في كيبيك.
كانت محطتنا الأولى في مدخل الفندق. الجدران الثلجية مرتفعة أكثر من خمسة أمتار، وعليها نحتت رسومات رائعة الجمال. بالإضافة إلى الجدران الثلجية هناك جدران أخرى جليدية شفافة. هي الأخرى نُحتت داخلها أشكالٌ رائعة الجمال.
كل أثاث الفندق مصنوع من الثلج ومن الجليد، حتى الطاولات والكراسي جليدية. وإن كان البناء كله من الثلج الأبيض، فالإضاءة تلون المكان بألوان مختلفة تجعله أكثر سحراً.
انتقلنا لزيارة الغرف. لكل غرفة عنوان صُممت بناءً عليه. هنا غرفة الشمس. نحتت أشعة الشمس ومناظر طبيعية على كل الجدران. السرير مصنوع من الجليد الشفاف. والأجمل كانت الإضاءة التي وضعت في قلب السرير لتضيئه باللونين الأصفر والبرتقالي. من غرفة الشمس انتقلنا إلى غرفة سور الصين العظيم. نحت السرير داخل السور كما جسدت الحضارة الصينية في كل تفاصيل الغرفة، وأضيئت الجدران باللون الأحمر. وارتفع سور جليدي مع شخصيات صينية في كل أنحاء الغرفة. ثم انتقلنا إلى جناح 007. يجسّد هذا الجناح قصة العميل «جيمس بوند»، ومن يرغب بالمبيت لليلة واحدة في فراشه فعليه أن يدفع 7 آلاف دولار. غرفة المهندس غاودي من أجمل أجنحة الفندق.
من الغرف انتقلنا إلى كنيسة ثلجية بامتياز. المعبد من الجليد الشفاف نحت فوقه صليب ضخم وتماثيل ليسوع المسيح وللعذراء. المقاعد أيضاً من الجليد، وقد غطيت بفرو الحيوانات. ومن الكنيسة، توقفنا في الحمام التقليدي. مركز للتدليك وجاكوزي وسط الثلج. ربما تلك أجمل وأروع ما في هذا الفندق، لأنها تمثّل التناقض بين الخارج الجليدي والداخل الساخن. خلال الجولة كنت أتساءل عن متانة المبنى. كان الخوف من وقوع انهيار ثلجي يراودني، ويثير وسواسي وأنا نائمة. أردت التأكد من سلامة المبنى، على طريقتي. قذفت الحائط برجلي، وكانت النتيجة واضحة... على رجلي بالتأكيد.
في الحانة الليلية، كانت لنا استراحة. هناك سألت أحد الأصدقاء: «لنقل إنني لا أحس بالبرد. ولكن هل سأنام على الجليد؟» أجابني مبتسماً بألا أخشى البرد، لأنني بالتأكيد سأمضي ليلة دافئة جداً. فعلى الأسرّة توضع بطانيات مصممة خصيصاً ضد الحرارة المتدنية، وإن كان المرء ينام على الجليد في القطب الجنوبي. ابتسمت، وتنفست الصعداء. ربما حان الوقت كي لا أخشى البرد، ولأترك زملائي الكنديين يقودونني في هذه المغامرة، فهم أدرى بالمكان ويحسنون التصرف في مواجهة البرد القارس. طلبت كأس فودكا. وجاء النادل حاملاً الفودكا في كأس من الجليد...