تنقل الفضائيات صور المجازر والعدوان على غزة إلى كل بيت. أطفالنا يشاهدون الصور، ويسمعون أخبار الضحايا. في هذه الحال، هل نخفي عليهم الحقائق، أم نحدثهم عن العدو الشرير الذي يقتل الأطفال الأبرياء؟ من جهة ثانية، ما الذي قد ينتج من الموقف «اللامبالي» أو المعادي للمُعتَدى عليهم؟
بيسان طي
بيروت 29 كانون الثاني 2008
المشهد الأول: تهرب كندة إلى شرفة المنزل، تحضن ابنها البالغ من العمر سنتين، تقول له: «إن شاء الله تموت إسرائيل» ترفع قبضة الولد، وتحكي عن «الأشرار الذين يقتلون الأطفال»...
المشهد الثاني: رانيا وعائلتها في نزهة، تمنع صديقتها من التحدث بما يجري في غزة أمام الأطفال، تعلّق قائلة: «لا أريدهم أن يتعرفوا إلى أمور مخيفة، هذا ليس شأننا».
المشهد الثالث: في مركز «نسمة» في شارع الحمرا، أطفال من فئات عمرية مختلفة يكتبون ويرسمون «غزة». قصص وأشعار عن المقاومة والصمود وقتل الأبرياء. أما اللوحات ففيها بيوت وصواريخ وقذائف، وأطفال ممدون قتلى... وبينهم دم وورود. تقول مروة شهاب (7 أعوام): سأرسم مستشفى، وصديقها يعرُب يغطي وجه صبي وجسده باللون الأحمر. أما تيمة فتقول: «يا حرام عم يضربوهم كتير ناس وbebe بيموتوا»، تدرك أن مساعدة أطفال غزة «واجب»، تبحث عن الوسيلة وتجيب بعد طول تفكير: «نأخذهم إلى المستشفى».
كيف نتعامل مع الأطفال خلال وقوع حرب أو عدوان، ومع توالي الأخبار والصور عنها؟ الدكتورة نجلاء بشور، أستاذة العلوم التربوية في الجامعة الأميركية، تجيب بضرورة التحدث مع الصغار عن هذا العدوان. تلفت إلى أن صور الحرب قد تترك آثاراً سلبية جداً لدى الأطفال الصغار، وتسجل اعتراضها على الأسلوب الذي تعتمده وسائل الإعلام في عرض صور المجازر.
بشور التي تدعو الأهل إلى ضرورة التحدث مع الصغار عمّا يحصل، تشدد على ضرورة الإجابة عن أسئلة الأولاد كلها. في هذا الإطار تلفت المعالجة النفسية الدكتورة سهى بيطار إلى أن حالة الإنكار صعبة بالنسبة إلى الطفل، فالكلام يساعده على فهم ما يحصل، فإذا لم يُفهَم ما يحدث «فإنه سيلتقط داخله معنىً ما للأحداث، وسيقوم بتأويلها، دون أن يكون هذا التأويل سليماً بالضرورة».
بيطار أيضاً تدعو الأهل إلى التحدث مع الصغار عن العدوان، «فلتُشرَح الأمور بلغة بسيطة» وبمفردات من قاموس الطفل، سيفهم عندها أن أشراراً يهاجمون أبرياء ويقتلونهم، وأن المُعتَدى عليهم يواجهون الخطر بالمقاومة، «عندما نعطيه العناصر البسيطة سيتمكن من تكوين السيناريو لفهم الموضوع بطريقة صحيحة». وتشدد بيطار على ألّا يلجأ الأهل إلى الكذب، بدل ينبغي تقديم الإجابات الصحيحة. وتضيف أن الطفل ينتظر أجابات من أهله عن أسئلته بشأن ما يجري، فإذا لم يحصل عليها فقد يعيد إنتاج هذه الأسئلة من خلال جسده (بالأوجاع أو الأمراض) أو من خلال خياله.
بيطار تلفت إلى أن الفضائيات اقتحمت منازلنا، ويرى الأولاد صوراً لا تجوز رؤيتها في سن صغيرة، وإن لم يفهم الطفل معنى الدم الذي يسيل، فإن ذاكرته ستسجل هذه الصور. وشددت بيطار على ألاّ يشاهد الأطفال صور المجازر والعنف، ودعت الأهل إلى إطفاء التلفاز في حال وجود الأولاد.
من جهة أخرى، يحدث التباس لدى الأطفال الذين يرون صور المجازر من خلال التلفاز، إذ يصعب عليهم التفريق بين الواقع والخيال، وهنا تزداد الحاجة إلى تقديم الشروح، ما يساعدهم مستقبلاً على التعرف إلى الحد الفاصل بين الواقع والخيال.
يمثّل العدوان الإسرائيلي على غزة نوعاً من أعلى درجات العنف، لكن الإنسان يعيش عنفاً آخر بين أقرانه. وتلفت بيطار إلى أننا إن لم نساعد الطفل على فهم ما هو العنف وكيف يواجهه، فإنه لن يعرف كيف يتعامل مع الآخر إذا كان عنيفاً، لن يعرف كيف يتعامل مع الواقع وكيف يواجه المخاطر. في مقابل الأهالي الذين ينسون وجود أطفالهم ويتابعون معهم الصور الدامية، يختار بعض الأهالي الانحياز إلى موقف اللامبالاة، هم أنفسهم لا يكترثون لما يجري، ويمنعون أطفالهم من التعرف إلى القضية الفلسطينية إلى الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي.
رفضت بشور موقف اللامبالاة هذا لأنه موقف «غير إنساني، وغير حضاري»، تحدثت عن مجموعة من الحضانات النرويجية التي تمت توأمتها مع حضانات من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، الأطفال النرويجيين تعرّفوا إلى معاناة الفلسطينيين، وإلى قضيتهم «هل النرويجيون غير متحضرين؟!» علقت بشور بسخرية، وأضافت: «أهالي هؤلاء الأطفال متحضرون، وينتمون إلى مجتمع راقٍ، وهم لا يبحثون عن وسائل لتخويف أولادهم، لكنهم يعرّفونهم بمآسي العالم لينمو لدى هؤلاء الصغار الشعور بالمسؤولية الإنسانية». ولفتت بشور قائلة: «إذا أردنا أن ننمي مواطناً، لا فرداً أنانياً، يجب أن نلتفت إلى أنه معنيّ منذ طفولته بالقضايا الإنسانية، فالخطاب اللامبالي غير وطني وغير حضاري».
بيطار أيضاً ترفض الموقف اللامبالي، وتقول إن «الولد مرآة أهله، يتماهى معهم»، أي إن هذا الطفل سيتحول مع بلوغ مرحلة الرشد إلى إنسان غير مبالٍ بالآخرين. لكنها تلفت أيضاً إلى أن بعض هؤلاء الأطفال يتعرضون في مرحلة متقدمة من العمر لـ«محفزات» من أقرانهم أو زملائهم، ما يدفعهم إلى طرح الأسئلة عمّا تعلموه صغاراً. وهذا الأمر نشهده في بيئات عالية الثقافة والاطّلاع فقط، وتضيف: «المجتمع في أوروبا مثلاً سليم بسبب البيئة الثقافية، حيث الناس يطّلعون ويطرحون الأسئلة». ودعت إلى اعتماد القراءة أحدَ المصادر لمعرفة الأحداث بدل التسمّر أمام التلفاز.


صور الموت والقتل ستترك آثاراً سلبية لدى الطفل، ولكن بشور لفتت إلى أن التفاعل نسبي، ووضع الطفل في بيئته المنزلية يؤدي دوراً في هذا الإطار، إذ يمكن تخفيف آثار الصدمة إذا كان الطفل يشعر بالأمان في عائلته، وإذا كان والداه يؤديان دور التوعية ومتضامنين مع المتعرضين للعدوان.