فادية حطيطحين دلفت إلى اللوحة، كان كل شيء يشي بكآبة فائقة. قلت أستوي بين النساء المتلفعات سواداً، فلست لأشبه غيرهن وانسللت إلى حزنهن المتأصل. أحسست أن لاجتماع النساء طعم كآبة أليفاً. بين الحين والآخر كانت اللوحة تهتز مع دخول امرأة جديدة، ثم تعاود استقرارها. والمكان يتسع لكل النساء. والمكان لا يتسع لغير النساء.
قلت إن بمقدور النساء إنجاب الأمكنة أيضاً. الحضن، الرحم، الصدر، أمكنة نسائية كثيرة. وقبعت في مكاني الأمومي الدافئ.
يمتلئ المكان بنسائه. فتقوم إحداهن لتعلن لنا، نحن النساء القابعات في مقاعد الحسينية، أن زمن حزننا متصل، وتدعونا إلى البكاء. فتأخذني الذكريات إليهن متلفعات بثيابهن السوداء. أمشي بينهن في مواكب عاشوراء في سواد الليل الأنيس. أمشي بينهن مأخوذة برائحتهن وألفتهن، أمسك طرف ثوب أمي الأسود وأنظر إلى اللواتي سوف أصير مثلهن في ما بعد. امرأة يملأها البكاء بانتظار أيّ حزن. حزن طفل جائع أو رجل فقير أو امرأة مسجونة.
وأتذكر أمي وما كانت تجهد في تعليمه. إن الحياة لن تكون جديرة بالعيش إلا إذا أهديناها لأحد. وأننا نحيا لنحب. وأن إخوتنا أول الأحباب. وأننا نحن البنات علينا أن نرفع من أجل إخوتنا الدعاء صبحاً ومساءً، وأن نجعلهم في قلوبنا وأن يغمرنا الحزن كله إذا مسّهم سوء. وحينما كنت صغيرة لم يعجبني ذلك، وقلت في نفسي لن أستوي في مصنع الأخوات، ولروحي أن ترفرف حيثما شاءت. ولكن كيف بالإمكان تجنّب ما تقوله الأمهات؟ أنا لم أعرف أني قد سمعت كلام أمي إلى هذا الحد إلا حين دلفت إلى تلك اللوحة. حينما تعالى صوت النادبة الآتي من دهور عتيقة كأنه لا يستهدف سواي، قائلاً لي يا أخت ادخلي في مسيرة هذا الحزن الابدي.
أدركت أني تشرّبت كل ذلك حين دخلت طائعة. لبست السواد مع اللابسات، ذرفت الدمع مع الدامعات، لطمت الصدر مع اللاطمات. سرت خلفهن في مسيرة الحزن. لا اعتراض، لا غضب، لا تمرّد. بالعكس، لذلك كله طعم كآبة أليف.
يملأ صوتها النادب القاعة، فتفرش كل واحدة أحزانها أمامها وتأخذ بالبكاء. حينذاك ترتدي وجوه النساء قسمات محددة... يصبحن كلهن أخوات، ودموعهن الغزيرة تحكي حزن الزمن الملعون... يتسلل صوتها النادب إلى أحزاننا الكامنة، والأيدي تضرب الصدور والأفخاذ في حركات رتيبة. أسمعها تعلن بصوت حزين يخترق مسام جلدي أن الأخوات هن الأكثر حزناً. فيقوم أخي من بيننا، من رحمنا، من صدرنا، من حضننا، شاباً أسمر في العشرين ربيعاً وتوقاً. مبتسماً وجميلاً. هادئاً ورقيقاً. شفافاً وأثيرياً.
بين الحين والآخر تهتز اللوحة وتدخل فتيات صبايا ضاجات بالحياة يرتدين الأسود. إنهن أخوات اليوم، وهن متلفعات بأحزان أمهاتهن بانتظار أن يطرّزن أحزانهن الخاصة، وأن يدخلن في مواكب عاشوراء تمسك البنات الصغيرات أطراف أثوابهن مأخوذات بسحر الحزن الأليف.