فارس البحرة*رغم أن هذه الموضوعات تفتقد إلى الحد الأدنى من تماسك المنطق الصوري حتى، فإنها تتردد في العديد من مصادر الإعلام العربي، والأنكى من ذلك، بين أفواه بعض المثفقين وأشباههم. ونظراً لركون البعض لمثل هذه المنظومة المتهافتة دون أن تكون لهم في ذلك مصلحة واضحة، ارتأيت محاولة اجتلاء العامل النفسي الذي يجعل هذه الأعراض ــــ إن جاز التعبير ــــ تمثّل متلازمة ــــ إن جاز التعبير أيضاً ــــ شائعة إلى حد ما، ما يجعل الكثير من أجهزة الإعلام تصطفيها دون غيرها، وتكرر استخدامها، لمحاربة صحوة الشارع العربي التي تزداد راهنية يوماً بيوم.
الملاحظ أن احتقار الإنسان العادي غير المثقف واتهامه بالشعبوية والغوغائية سمة جامعة لأصحاب هذا المذهب، رغم أنهم نادراً ما يكونون على مستوى يذكر من الثقافة. بمعنى آخر، يعطي هذا التيار أصحابه الوهم بأنّهم نخبة، رغم تواضع مرجعياتهم العلمية والأدبية غالباً. هم نخبة لأنهم ببساطة ضد الإجماع العام. هم نخبة عددية، أقرب للأقلية، وليسوا بالنخبة النوعية نظراً لتهافت حججهم وضحالة فكرهم.
ورغم ادّعائهم للعلمانية في كثير من الأحيان، فإنهم يبدون مخاوف ليست لها أية مرجعية علمية. فالخوف من الخطر الإيراني ــــ الفارسي أو الصفوي كما يحبون تسميته ــــ عرضٌ كثير التكرار لديهم. ولما كان هذا الخطر بمقارنته بالجرائم المرتبطة بالصهيونية والمعروفة للقاصي والداني ضرباً من ضروب الخيال، وجب البحث عن أسباب غير عقلانية لهذا الخوف، أسباب ربما نعثر عليها في اللاوعي الجمعي.
لما كانت إسرائيل قد شرّدت في سنة 1948 فقط، أكثر من 800.000 فلسطيني ودمّرت أكثر من 500 مدينة وقرية عربية وارتكاب المجازر في 33 مدينة وقرية عربية، فإن ذلك يعيدنا لأن نشكك بالمسلمة المدوّنة أعلاه: لماذا الخطر الشيعي والإيراني أكبر من الخطر الإسرائيلي؟ ولما كان التساؤل عن سبب مثل هذا الادعاء سيؤدي غالباً إلى هياج يمكن رصده سريرياً لدى أصحاب هذا التيار، دون أن يدلوا بأجوبة واضحة، فإن ذلك يشرعن بحثنا في نطاق اللاوعي الجمعي، لأنه يوحي بارتباط مذهبهم بمخاوف بدائية لا بمنظومة فكرية مقنعة، مخاوف طفولية تجاه الفرس والشيعة والأصوليين والدكتاتوريين. وبينما يمكننا تحديد مرجعيات واقعية معقولة للخوف من العاملين الأخيرين، دون أن يعني ذلك التعبير عن منظومة فكرية ذات أبعاد، بل مخاوف مفهومة فحسب، يبقى الخوف من الشيعة والفرس أمراً لا يفسَّر خارج التراث الشعبي والمخاوف التقليدية المرتبطة بالفترة العثمانية على أقرب تقدير.
هنا تطفو نقطة هامة جداً في رأيي على سطح اللاوعي الجمعي العربي، وهي الخوف والرعب من إسرائيل. لا يركز الإنسان العربي على هذه النقطة ولا يعترف بها بسهولة. إن تكن لأصحاب هذا التيار نقطة صائبة، فهي انتقادهم للعنتريات العربية، فالموقف العربي التقليدي هو إنكار الرعب الذي تزرعه إسرائيل في نفوسنا جميعاً والتغطية عليه بالتغني بالأمجاد والتظاهر بالقوة.
لكن أصحاب التيار الذي نتناوله بالتحليل أكثر إنكاراً وأقل عقلانية حتى من هذه الخطابية العربية التقليدية التي ينتقدونها، فخطابهم لا ينكر الخوف فحسب بل التهديد الإسرئيلي للإنسان والاجتماع العربيين، هذا التهديد الصريح والواضح الذي لا تتكتم إسرائيل عليه بل تجاهر به علناً.
فعملياً عندما يطلب أولئك الأشخاص ألا نتكلم عن إسرائيل بل عن الأنظمة والخطر الإيراني والأصولي، هم مثل الطفل الذي يريد ليّ الحقائق التي تؤرّقه، فيطلب من أهله مثلاً أن يقولوا له إنهم لن يموتوا. خوف أولئك الأشخاص البدائي من إسرائيل أقوى من أن يواجهوه. إنّه الرعب الذي يعجز صاحبه عن التصريح لنفسه به فيستبدل به مخاوف مشابهة أقل رعباً، كالخوف من الفرس والشيعة، ثم مخاوف أكثر راهنية وقابلية للتصديق كالخوف من الأنظمة والأصولية. هم بذلك كالطفل الذي يفضّل أن يعيش خوفاً من الحيوانات المنزلية على أن يواجه خوفه من أبيه، أو تجده يحوّر هذا الخوف إلى خشية من وحوش وتنانين تشقّ الظلام وتثب عليه. ويستدعي مثال الخوف من الأب هنا قتل الأب بالمعنى الفرويدي الذي من تمثّلاته الرمزية معارضة ما هو عام، في محاولة لإيجاد الشخصي والخاص والمختلف، ومعارضة الجماعة التي تمثّل قيم الأب. لكننا نجد المعارضة هنا بشكلها المَرَضي لا بصيغتها المصعّدة الإبداعية الخلّاقة. فهذه المعارضة لا تجد صيغاً جديدة تستوعب القديمة هضماً وتتجاوزها إلى آفاق أرحب، بل معارضة بسيطة بالقلب للضد، والاستسلام المازوشي للمذمّة الجماعية، وتشفٍّ بالذات وبالرموز الأبويّة التي تتهدّد منزلتها الأخطار الخارجية. يعوّض عن ذلك مجرد الشعور بالتميز والاختلاف من جهة، وتحقيق وظيفة الهروب من مواجهة الخطر الحقيقي المهدد والداهم من الجهة الأخرى. كل ذلك دون مراعاة للمنطق، وبانفجارات انفعالية لدى أية محاولة للمراجعة العقلانية، مثلما هو الأمر عادة في الظواهر العصابية.
... يبدو أن البعض يفضل الارتجاف في سريره خوفاً من زحف مجوس افتراضيين، على أن يواجه في خياله ما يواجهه البشر على الأرض حقاً.
* كاتب وطبيب نفسي سوري مقيم في برلين