نهلة الشهاللن تستقيم أمور الأنظمة العربية وقدراتها على السيطرة على الموقف إذا تمكّنت تنظيمات المقاومة في غزة من الصمود، ومن تكبيد القوات الإسرائيلية ثمناً باهظاً ــ وإنْ وفق مقاييسهم التي تبدو أرقامها ضئيلة مقارنةً بالثمن المدفوع من جانب المعتدى عليهم. ستكون تلك المرة الثانية، بعد صمود لبنان وهزمه للعدوان صيف 2006. ولكنها ستكون رمزياً أكثر أهمية من لبنان، لأن مساحة غزة متناهية الصغر، وهي منهكة القوى بعد حصار مديد وقصف دائم، وخصوصاً لأنها معزولة بلا عمق استراتيجي، كما هي حال لبنان.
من سيقنع الناس بعد ذلك بأن خيار الاستسلام لا بديل له، وأننا أعجز من إلحاق هزيمة بإسرائيل؟ بل ليس من المبالغة في شيء القول إن نصراً من هذا النوع في غزة الجريحة، يضاف إلى نصر لبنان، سيؤذن ببدء عهد نهاية إسرائيل، وهو أمر لا يمكن القوى المهيمنة ــ بسلطاتها السياسية ونخبها الفكرية ــ تخيُّل إمكانه، مع أنه مطروح كمعطى تاريخي واقعي، تعجّل في حلوله هزائم وإخفاقات على تلك الشاكلة. أما عجز القوى المهيمنة عن تخيل ذلك، فمرده تقديسها لإمبرطوريات القوة والجبروت، كبيرها وصغيرها، رغم أن وقائع التاريخ لا تكفّ عن إثبات خطل ذلك!
وعلى افتراض عدم توافر القدرة للغزاويين على تحقيق نصر بوجه الآلة العاتية للجيش الإسرائيلي، فما سيحدث هو تعمّق الشرخ بين عموم الناس في المنطقة العربية، وبين الأنظمة القائمة.
في تظاهرات الأيام الماضية، في المنطقة وفي المهاجر، كانت الشتائم المطلقة على قادة تلك الأنظمة، اسمياً وواحداً واحداً، تعادل في قوتها تعبيرات العداء لإسرائيل وأميركا ــ ومعهما الاتحاد الأوروبي. قد يظن قادة تلك الأنظمة العربية أن ممارستهم لمزيج من القمع الشرس العام وإفساد النخب يكفي لبقائهم في السلطة. وقد يطمئنون لغياب البدائل. ولكن ملاحظة القطيعة المتعاظمة، وافتقاد تلك السلطات أي قدرة على الإقناع وكل شرعية، أمر في غاية الأهمية لرصد تطورات المستقبل.
وعلى مستوى آخر، فثمة مراقبة لسلوك السلطات التي تنادي بالمقاومة، كإيران وسوريا، حيث يسجل عموم الناس تناقضات مواقفها ويزدادون تبرماً بها. بل، وبسبب من إدراكهم الغريزي لأهمية معركة غزة، فهم لا يكتفون بما قد يكون دعماً لوجستياً خفياً مقدماً إليها. فترك غزة تذبح بشراسة اليوم، دون أن تضع هذه السلطات في الميزان كل ما تملكه من وسائل ضغط، وهي كثيرة، يفتح الطريق أمام انتصار النظرية التي تقول إن مواقفها ليست سوى مزايدة لفظية وسياسوية على سواها من الأنظمة، وأنها بصدد تنفيذ استراتيجيات تناحر وهيمنة ليس إلا. وهي ستفقد عندها شرعية خطابها، بل ستبدو قابلة لإدانة مضاعفة بسبب ما يستجره هذا الخطاب من تطلُّب تضحية عالية من سواها، فيما تبقى هي في المكان الدافئ والآمن والمريح!
يبقى أن أولى ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة هي السلطة الفلسطينية التي باتت بلا غد سياسي. صحيح أن «نموذج الجلبي» قد ولّد أشباهاً كثيرين، ولكن الصحيح أيضاً أنه أظهر في العراق نفسه عن حدوده الضيقة، رغم مفاعيل الندوب الغائرة في جسد المجتمع لسلطة صدام حسين الديكتاتورية، مما لا يجد مجالاً للمقارنة في غزة، على كل النقد الممكن لحماس.
ويبقى المأزق الإسرائيلي. نعم! فرغم التفوّق العسكري، ورغم اختلال ميزان القوى السياسي، عالمياً وفي المنطقة العربية، لمصلحة العدوان، فثمة مأزق إسرائيلي.
لنفترض جدلاً أن غزة ستصرخ من الألم، تبقى كلفة الاجتياح الأرضي بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي الذي يعدّ قتلاه بالمفرد، ويتطلب مقابل الرضى بثمن كهذا نتائج سياسية حاسمة واستراتيجية، وهو أمر لا أفق لتحققه.
ولنفترض جدلاً أنه تم اجتياح غزة بالكامل، فماذا بعد؟ أي استراتيجية إسرائيلية للسيطرة على غزة وحكمها بعد ذلك، وهي التي قال قادة تل أبيب يوماً إنهم يتمنون لو يبتلعها البحر؟
يقول المسؤولون الإسرائيليون إنهم ليسوا بصدد وقف عملياتهم، من قصف واجتياح، ولا بصدد احتلال غزة! فكم سيتمكّنون من الثبات على خط وهمي كهذا؟
وبكل الأحوال، وفي الختام، وبغض النظر عن التحليلات: تحية لغزة الجريحة، تحية لفلسطين لا تموت، بعد ستين عاماً، لا تشيخ ولا تموت!!