بلغ الإرهاب الصهيوني مستويات جديدة، بعدما أطلقت إسرائيل العنان لآلتها التدميرية على شعب غزة. في هذه الإبادة المقنعة، يمثّل الغذاء أحد أسلحتها الاستراتيجية، وتمثّل غزة المختبر لقوة بطش ترسانتها العسكرية
إعداد: رنا حايك
تُعدّ غزة في الأساس مخيماً كبيراً للاجئين، يعيش فيه مليون ونصف مليون فلسطيني في ظروف معيشية غاية في السوء. وبحسب إحصائيات أجرتها هيئة الأمم المتحدة عام 2003، يغرق 75% من سكانها في فقر حاد. وسكان غزة فقراء بالمعنى الواسع للكلمة، فهم فقراء اقتصادياً، ومحرومون من الخدمات الأساسية، كما أنهم محرومون من فرص التطور: فإذا ولدت في غزة، ستنقل لك قنوات البث الفضائي مشاهد من عالم لن تستطيع أن تكون جزءاً منه.
على مر السنوات، عملت إسرائيل جاهدة لخلق وضعها وتعزيزه. وتمثّل سيطرتها الخبيثة على توفير الغذاء جزءاً من مشروع أكبر يرمي إلى تعزيز الإحباط الجسدي والنفسي والمعنوي للفلسطينيين.
نتيجة لذلك، سجل سوء التغذية في غزة معدلات صنفت بين الأعلى عالمياً. الأمر الذي سيعانيه السكان لسنوات كثيرة مقبلة بحسب الخبراء.
فقد مارست إسرائيل منذ عام 2000 سياسة تقليص الأمن الغذائي في غزة بشكل فاضح، إذ منعت منهجياً الغذاء من الوصول إلى أكثر الناس احتياجاً له.
مثلاً، عمد الجيش الإسرائيلي في 30 تشرين الثاني من عام 2002 إلى تدمير مخزن ضخم لبرنامج الغذاء العالمي في مخيم جباليا، كان يحتوي على 537 ألف كيلوغرام من المساعدات الغذائية التي قدمتها اللجنة الأوروبية ودولة السويد هبات كان من المفترض أن توزّع على 41300 شخص من المعوزين.
منعت إسرائيل يومها العمال التابعين لبرنامج الغذاء العالمي من تفريغ المواد الغذائية وإنقاذها، بعدما أضرم جيشها النار لإحراق 413 طناً من دقيق القمح، و107 أطنان من الأرز و17 طناً من الزيت النباتي.
وحين وصف جون زيغلر، مقرر لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالحق في الغذاء الوضع في غزة، في تموز 2003، بأنه «حالة طوارئ إنسانية يسيطر عليها سوء التغذية الحاد»، نجح اللوبي الصهيوني في عزل الرجل والتسبب بنبذه، من دون توجيه تهمة محددة له، رغم أنه كان قد استند في تحليله إلى مصادر، كتقارير وكالة التنمية الأميركية.
نجح الإسرائيليون بظرف سنوات ثلاث فقط في تحويل غزة من قطاع يصنف في عداد المداخيل المتوسطة إلى أحد أفقر البقع في العالم.
فقد قفز عدد الأطفال دون الخامسة الذين يعانون سوء التغذية في القطاع من 7.6% عام عام 2000 إلى 22% في عام 2003. اليوم، يعاني حوالى 15.6% من الأطفال دون الخامسة مرض الأنيميا (فقر الدم)، الذي سيترك آثاره السلبية الدائمة على نموهم الجسدي والنفسي في المستقبل، بينما تراجعت معدلات استهلاك الطعام بنسبة تفوق 30% للشخص في القطاع المنكوب.
فقد اقتصر غذاء أكثر من نصف الأسر الفلسطينية على وجبة واحدة في اليوم، بينما حاول الكثيرون ممن قابلهم زيغلر محاربة الموت جوعاً عبر تناول الخبز والشاي.
سرعان ما ظهرت بعد ذلك التبعات الصحية للحصار الغذائي على غزة، حيث أظهر مسح للأسر الفلسطينية عام 2004 أن سوء التغذية ينمو ببطء لكن بثبات، مخلفاً إعاقات وتوقفاً عن النمو أصابت ما يتخطى 10% من السكان.
إلا أن الوضع لم يلبث أن ازداد سوءاً منذ عام 2004. ففي شباط 2007، ذكرت جريدة «الإنديبندنت» البريطانية اليومية تقريراً للأمم المتحدة أكد أن 46% من الأسر في غزة والضفة الغربية يعانون من «فقدان الأمن الغذائي»، بينما ظلت إسرائيل متمادية في استخدام الغذاء سلاحاً.
وفي تشرين الثاني من عام 2008، ذكرت الجريدة ذاتها تقريراً مسرّباً من هيئة الصليب الأحمر لفت إلى استمرار ارتفاع معدلات سوء التغذية المزمنة في القطاع.
بحسب هيئة الصليب الأحمر، كانت آثار الحصار مدمرة، تسببت في انهيار مأساوي لمستويات المعيشة أدى إلى تغيير جذري في نظام السكان الغذائي، من شأنه «الإضرار بصحة مواطني غزة على المدى الطويل، خصوصاً وقد ثبت تفشي معاناة معظمهم من نقص الحديد والفيتامين أ وب».
فقد تحول نظام الفلسطينيين الغذائي من الأسماك والخضار إلى الاعتماد على السكر والزيوت والنشويات، وهو نظام غذائي معروف بقدرته على التسبب بالأمراض المزمنة وبأمراض القلب والشرايين.
ورغم أن الصليب الأحمر قد أخطر الحكومة الإسرائيلية وحكومات أخرى بأن قلة التغذية ونقص المواد الغذائية الأساسية واقعة وتنذر بالتأثير السلبي على صحة الفلسطينيين على المدى الطويل، إلا أن الحال بقيت كما هي. إن اجتثاث الفلسطينيين وإبادتهم هو هدف يقع في صميم العقيدة الصهيونية واستراتيجية الإسرائيليين. وليست المجازر التي نشهدها في غزة اليوم سوى أحد مظاهرها، أما التعزيز المنهجي للنقص الغذائي والمرض، فهي مظهر آخر.