ورش إعادة بناء قرى الجنوب تساهم في دفع عجلة الاكتشافات الأثرية، ففي عيتا الشعب مثلاً عُثر على مغارة مقبرية ونواويس، ولكن هذه الآثار دُفنت مجدداً، لكي لا تعيق «البرنامج الإنمائي»... هل يستحيل أن يُوفّق بين الطرفين؟
كامل جابر ـ جوان فرشخ بجالي
منذ أكثر من أسبوع، بدأت الجرافات في وسط قرية عيتا الشعب أعمالها لبناء سوق القرية التجاري الشعبي الجديد. وكانت المفاجأة، خلال أعمال الحفريات طالت الجرافات الآثار الدفينة في باطن الأرض. فظهرت مقبرة منحوتة في الصخر وأغطية نواويس. تسارع الأهالي إلى «مكان الحدث» لمتابعة ما يجري، ولكن قرار رئيس البلدية كان أسرع من حشريتهم. فأتت الأوامر إلى العمال: «أعيدوا طمر المقبرة قبل أن ينتشر الخبر». نُفذت رغبة رئيس البلدية. ولكن بعض السكان لم يقبلوا بهذا الواقع، وأفادوا جريدة «الأخبار» بما يجري هناك، طالبين منها التدخل لإنقاذ «ماضي القرية التي خسرت طابعها التاريخي حينما جرفت بيوتها القديمة في عملية إعادة الإعمار، والتي قد تخسر اليوم ماضيها القديم تحت عنوان الإعمار أيضاً».
كانت بلدية عيتا الشعب قد قررت إنشاء سوق تجارية شعبية في ساحة القرية على عقار تابع لوقف البلدية، وحينما اكتشفت في باطن الأرض حجارة مقطعة (بعضها ضخم جداً)، تقرر رفعها لإعادة استعمالها في تزيين القرية لاحقاً، تماماً كما حصل مع قطعتين من أغطية ناووسين اكتشفتا في الموقع عينه، فنقلتا إلى حقل قريب من النادي الحسيني. هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الآبار المحفورة في الصخر والمطلية جدرانها التي تضرر قسم كبير منها خلال الحفريات.
رئيس البلدية عبد الناصر سرور علق على هذه الاكتشافات مؤكداً «أنه لم يُبلغ المديرية العامة للآثار لأن ما عُثر عليه كناية عن حجارة مقطعة من بيوت قديمة وبعض الآبار، ولو كانت آثاراً حقيقية لأبلغنا السلطات المختصة فوراً بأمرها». ولكن أحد أعضاء المجلس البلدي أكد أن ثمة آثاراً ظهرت خلال الأعمال. وقال طالباً عدم ذكر اسمه «نعتقد أنها مغارة مدفنية محفورة في الصخر، ولكن البلدية عملت على إعادة طمرها حتى لا تصبح شغل الناس، ولكي لا ندخل في سين وجيم ويجري الحَجر على قطعة الأرض، ما يؤخر الأعمال». وتعليقاً على تلك المعلومات، أكد رئيس البلدية أن «عيتا الشعب قائمة على قرية قديمة، وربما على آثار رومانية، ونحن لن نتهاون في شأن أية آثار قد نكتشفها خلال أعمال الحفر، لأن ثقافتنا و»استراتيجيتنا» تمنعنا من ذلك، ولكن في الوقت عينه لا يمكننا أن نقفل الأرض ونوقف الأعمال لمجرد الاشتباه بوجود آثار، فيخرب بيتنا بضياع هذه الساحة الطويلة والعريضة التي نحن بأمس الحاجة إليها».



وهنا تجدر الإشارة إلى أن المحافظة على الآُثار لا تعني إطلاقاً خسارة قطعة الأرض هذه، بل يمكن استغلالها لأغراض سياحية وثقافية، إضافة إلى إمكان استعمالها سوقاً تجارية. فعلم الآثار اليوم أصبح يدمج بين المحافظة على الإرث واستعمال العقار لأغراض حياتية يومية. بهذه الطريقة يصبح الماضي والتاريخ جزءاً من الحياة اليومية لسكان البلدة، وتصبح عملية المحافظة على الآثار من ضروريات الحياة. فبهذا الأسلوب تعمل الشعوب على المحافظة على تاريخها. أما مبدأ منع الأعمال على العقار لأنه يحوي آثاراً فهو قديم العهد وقد تخطاه العلم، ولم يعد يعتمد إلا إذا كانت الآثار فريدة من نوعها لدرجة تحويل العقار إلى موقع أثري ـ سياحي. وهذه ليست حال عيتا الشعب، فالآثار المكتشفة مهمة لخلق ديناميكية إيجابية.قرار البلدية بالاستفادة من الحجارة القديمة المكتشفة «لإنشاء سور تراثي حول السوق المقرر إنشاؤها» إنما هو قتل وتشويه لهذه الهوية التاريخية. فالآثار في مكانها، وكل ما كان يتطلبه الأمر هو الكشف عليها من أهل الاختصاص، والتأكد من تاريخها وأهميتها وإبقائها في مكانها. حين تُرفع الآثار من مكانها، وخاصة بشكل غير علمي ومدروس، تخسر هويتها، تصبح قطع أحجار قديمة. يقول علي بدوي مسؤول الآثار في جنوب لبنان إنه «بدأ مشاوراته مع رئيس البلدية الذي سيُعيد فتح الموقع» حين يزور بدوي القرية في الأيام القليلة المقبلة للكشف على الآثار، وسيعدّ تقريراً فيها، كما سيبحث مع المجلس البلدي طرق العمل للمحافظة عليها. ويؤكد بدوي أنه يمكن أن تردم الآثار من جديد بشكل أن تبقى دفينة في الأرض، وبالتالي المحافظة عليها. ويقول بدوي «عيتا الشعب، كغيرها من بلدات الجنوب، قائمة على مجموعة آثار لا يمكن التكهن بها مسبقاً، ولا تُكتشف إلا خلال عمليات الحفر والبناء. والأجران القديمة في عيتاالشعب تؤكد امتداد القرية تاريخياً، وبالتالي وجود آثار فيها».
إن قررت البلدية المحافظة على الآثار عبر إظهارها إلى العلن وإطلاع السكان عليها وعلى أهميتها وإدخالها في حياتهم اليومية، تكون عيتا الشعب بذلك قد شقّت خطاً جديداً في باب التفاعل مع الآثار، بدل أن تبقى أطلالاً دفينة. وهذه الممارسة ستمثّل طريقاً، لكننا لا نزال في أولها، والقرار الذي سيتخذ في الأيام المقبلة سيكون له تأثير على مستقبل القرية وماضيها. فبعد حرب تموز 2006 أصبح لعيتا الشعب أهمية خاصة عند اللبنانيين، فلمَ لا يضاف عنصر الهوية التاريخية إلى ما تتمتع به هذه القرية من مكانة؟