أميمة عبد اللطيف*ليس للكلام معنى إلا بمقدار ما يستطيع أن يمحو من خزي فاضح لم يعد هناك مفرّ من الإقرار به. وهو خزي لا تمحوه المشاركة في التظاهرات أمام السفارة، ولا الرفض التام لأن تصنف مع من تواطأوا وخانوا وباعوا وقبضوا الثمن من دم الشهداء. ولا يمحو عاره أن تؤمن بكل الأدعية التي تصلّي بها الأمهات والعجائز في غزة الصامدة صباح مساء على «العرب ومصر». فالمصيبة عظيمة والتواطؤ أعظم والخيانة إن هي أتت ممن كان يعتقد أنه مؤتمن على القضية، يكون الأمر جللاً. ولا يعادل هذا الشعور بالعار والخزي سوى الشعور الذي أحس به المصريون يوم وُقّعت الاتّفاقية المشؤومة في العام المشؤوم. مصر اليوم بفسادها وترهّلها وخنوعها قد باتت عبئاً على العروبة.
غير أنه إذا كانت ثمة خيانة واقعة، فهي لم تقع من مصر تجاه غزة أو حماس فحسب، بل مصر خانت مصر قبلاً. مصر خانت أمنها القومي ومصلحتها الوطنية حين قبلت بدور الوسيط غير النزيه بين أهلنا في فلسطين والاحتلال (أكل الرؤوس سواء؟)، وحين انحازت بصورة فاضحة إلى طرف فلسطيني على حساب طرف فلسطيني آخر، مكرّسة بذلك الانقسام، وحين رفضت الاستجابة لمطلب شعبي مصري ملحّ بـ«إقفال سفارة وطرد سفير».
ولا يغفر هذه الخيانة بضعة آلاف خرجوا للتظاهر على خوف من فرعون وملإه.
أن تكون مصرياً اليوم يعني أن ترفض أن تصنف مع من تواطأوا وقست قلوبهم، فكانت كالحجارة، بل أشد قسوة.
أن تكون مصرياً اليوم يعني أن ترفض أن يتحدث باسمك وباسم مصر التي تعرفها جيداً بعض من ديدان الأرض وقوارضها أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين الذين تأتيهم المقالات من بين أيديهم وتحت أرجلهم جاهزة من «الهيئة»، وعليهم فقط أن يوقعوا بأسمائهم ويرفقوها بصورهم البلهاء.
أن تكون مصرياً اليوم يعني أن ترفض أن يطعن في عروبتك ووطنيتك، ولكنك في الوقت ذاته عليك أن تقبل النقد، وإن فيه أذىً، لأنه دائماً «من باب العشم في مصر».
أن تكون مصرياً اليوم يعني أن ترفض أيضاً كل تقاعس شعبي مصري لأي سبب كان عن مواصلة الاحتجاج على كل أنواع التواطؤ والخيانة.
أن تكون مصرياً اليوم يعني أن أضعف الإيمان هو أن تتلو فعل الاعتذار صباح مساء من شهداء سقطوا لنا بفعل تواطؤ البعض منا، ومن عرب دعوا الله أن تنهض مصر من رقادها فكان خذلانهم مبيناً، ومن أيقونة المقاومة السيد حسن الذي سمع أذىً كثيراً ممن سمّاهم تأدباً «أزلام النظام» وممن نعرفهم صراحة بأنهم «كلاب السلطة»، غير أنه ما ضرّ بحر الفرات إن خاض بعض «الكلاب» فيه.
غير أن ثمة خطأً وقع فيه البعض ساهم، وإن بصورة غير مباشرة، في تكريس حملة الدعاية التي دشنها النظام المصري عبر تصوير كل نقد يوجه للنظام السياسي وأدائه الكارثي قبل العدوان وأثناءه، بأنه حملة على مصر، وهو إن لم ينجح في أن يسوق الحملة للرأي العام المصري، إلا أنه نجح في استقطاب بعض من النخبة «العاقلة» عبر إيقاظ حسّ شوفيني مصري مقيت، وهو يستعين في سعيه هذا بجيش من الصحافيين والمعلّقين السياسيّين والعسكريّين الذين يتبنّون وجهة النظر الرسمية ويروّجون لها. ويقدَّم هؤلاء عبر الفضائيات الممولة سعودياً على أنهم يمثلون الرأي العام المصري، وهو منهم براء. ذلك أن هؤلاء يمثلون مصر بقدر ما تمثل كتابات فارس خشان وعلي حمادة الرأي العام اللبناني، ولا يمثل مبارك ولا أبو الغيط مصر إلا بمقدار ما يمثل سمير جعجع وفؤاد السنيورة كل لبنان. وهم على أية حال في المعسكر نفسه.
ثمة أمر لا بد من الانتباه له، وهو أن النظام في تركيزه على ما سمّاه «الحملة على مصر» هو لا يقوم إلا بما يعرفه أكثر من غيره، وهو إلهاء الناس بالحملة على مصر واستحضار شعور شوفيني كريه. فتارة يلقون باللوم على إيران وتارة أخرى على حزب الله وثالثة على الإخوان المسلمين، فيما الموضوع الأساس هو العدوان على غزة... أما إغراق الناس بالتافه والغث من تصريحات المسؤولين المصريين وبرامج الكلام التي هي أقرب إلى وصلات ردح منها للمهنية دفاعاً عن مصر ضد ما يصوّر أنه حملة عليها فهو ليس سوى من قبيل صرف الأنظار عن فعل الخيانة الآثم الذي تمّ إما بالتواطؤ مع العدو وإما بالصمت على عدوانه.
وغدًا...
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
* صحافيّة مصريّة