سعد الله مزرعاني*من العدوان على لبنان في تموز عام 2006، إلى العدوان الهمجي الحالي على غزة، ارتسمت معالم مرحلة جديدة في الصراع الدائر في المنطقة وعليها. ميزة هذه المرحلة هي نشوء وبلورة صيغ علاقات وتحالفات وجبهات انتقلت فيها إسرائيل إلى موقع الصديق والشريك، المعلن أو شبه المعلن، وعلى المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية! يأتي ذلك ثمرةً لجملة سياسات وتوجهات جهدت الولايات المتحدة بقيادة الإدارة الحالية (إدارة بوش و«المحافظين الجدد») لفرضها واعتبارها الناظم الأساسي، وحتى الوحيد، للصراع الدائر في المنطقة: فهي التي تحدد ملامحه الأساسية وتناقضاته الكبيرة الجديدة التي يجب أن تعتمدها واشنطن وأصدقاؤها وحلفاؤها في المنطقة. وفي مجرى «المشهد» الأميركي الجديد، أطلقت شعارات ودعوات وصيغ واضحة وملحّة لتغيير طبيعة الصراع «التقليدي» الذي طبع المراحل السابقة. لقد بات الصراع مع الفرس الإيرانيين بديلاً للصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. وبات خطر قيام «هلال شيعي» هو ما يجب أن يثير القلق ويستحثّ الاستعدادات والمواجهة، لا خطر التوسع والعدوان الإسرائيليين.
ونتذكر في هذا السياق القمم التي عقدت في «شرم الشيخ» المصرية، وفي «العقبة الأردنية». ونتذكر معها أيضاً اللقاءات والاجتماعات السياسية والأمنية التي كانت ترأسها وزيرة الخارجية الأميركية لبحث أمور ذات أهمية استراتيجية في المنطقة. وإن كانت إسرائيل قد غابت عن الاجتماعات السياسية، بيد أنها كانت حاضرة في الاجتماعات الأخرى، مباشرة أو سرّاً.
إن نشوء تحالف أو حلف لبعض (أو أبرز) عرب أميركا من الأنظمة العربية تنضم إليه الدولة الصهيونية، هو ما يمثّل إذاً أضخم وأخطر تطور حدث في مسار الصراع الدائر في المنطقة، منذ نشوء الدولة العبرية حتى يومنا هذا. وبعد عدوان تموز عام 2006، يدفع الشعب الفلسطيني، بعد الشعب اللبناني، ثمن نشوء هذا الحلف. الفارق كبير طبعاً، وهو أن الشعب الفلسطيني هو الضحية الأكبر، بسبب أن الثمن المطلوب منه يتعدى الدم والدموع إلى القضية نفسها، أي إلى وجوده. فالشعب الفلسطيني، من وجهة نظر إسرائيلية عنصرية بالأساس، هدف للتصفية الكاملة، وهو بات الآن هدفاً للتصفية السياسية من الأنظمة التي ارتضت الشراكة مع إسرائيل.
قد يقال إنّ هذا كلام متحامل (وحتى «خشبي»)، ومليء بالاتهامات، أو على الأقل بالتصورات والافتراضات. إلا أن الوقائع للأسف، تشير إلى ما يتخطى أكثر اتهاماتنا قسوة وأكثر تصوراتنا تشاؤماً! فهل من قبيل الصدفة مثلاً أن يُحَمَّل «حزب الله» في حالة لبنان (عدوان تموز 2006) مسؤولية «المغامرة»، ثم تُحَمَّل «حماس» مسؤولية العدوان البربري الصهيوني الراهن؟ يحصل ذلك بعد حصار همجي على غزة امتد شهوراً، ويحصل ذلك بعد محاولات عزل «حماس» حين تعذّر احتواؤها. ويحصل ذلك، بعد قمة «حوار الأديان والحضارات» التي بادرت قيادة المملكة العربية السعودية إلى تنظيمها قبل أسابيع، والتي كاد يكون ضيفها الأبرز (إذا لم يكن الوحيد!) الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز!!
وفي امتداد ذلك، تطرح أسئلة من نوع:
هل استجاب المسؤولون الإسرائيليون لقرارات الأمم المتحدة لكي يكافأوا بالتطبيع وبالحوار؟ هل استجابوا لمبادرة الملك السعودي نفسه (التي أقرت في القمة العربية التي عقدت في عاصمتنا عام 2002)، لكي نندفع معهم أكثر، نحو صلات وعلائق تنقلهم من موقع العدو إلى موقع الشريك أو الصديق؟
قد يقال: لماذا نبقى سلبيين؟ ولماذا نحاكم الناس على النيات، ولماذا نستمر في مقاطعة الإسرائيليين أو في الانقطاع عنهم؟ وهنا أيضاً، الجواب يأتي من فلسطين قبل سواها: فما الذي تستطيع أن تخبرنا إياه «السلطة الفلسطينية» بشأن تجربة التفاوض مع الصهاينة، بعد تنفيذ كل مطالب الولايات المتحدة وإسرائيل و«محور الاعتدال» العربي وشروطهم؟ فلقد بلغ من التزام الجانب الفلسطيني المفاوض من السلطة، أن ضحى نسبياً بأحد شروط قوة المفاوض، حين أسهم بقسطه في توتير العلاقات الفلسطينية ـــــ الفلسطينية، وفي شق الصف الفلسطيني وتمزيق الوحدة الوطنية الفلسطينية!
ويجب القول، في امتداد ما تقدم، إن الحلف العربي (المعتدل) الجديد، مع إسرائيل، قد اختار، تحت ضغط وتشجيع وإلحاح من واشنطن، ممارسة سياسة الهجوم، وعدم الاكتفاء بسياسة التنسيق التطبيعي أو الدفاعي. والهجوم على غزة اليوم هو حلقة في ذلك، كما كان الأمر بالنسبة إلى عدوان إسرائيل على لبنان في تموز عام 2006.
يمكن الجزم أن طبيعة المرحلة الانتقالية الراهنة (تبديل الإدارات وقرب الانتخابات...) لا تسمح بتطوير العدوان الحالي إلى محاولة مستوفية عناصر النجاح أو الرغبة في النجاح. لا يسمح بذلك أيضاً الصمود الشعبي الفلسطيني والمقاومة المواجهة للمعتدين وحملة الاحتجاج الهائلة على المجازر الصهيونية... لكن الإصرار على حصول العدوان، بتغطية كاملة من الشركاء في الحلف الجديد، يسمح بالاستنتاج أن سياسة الهجوم ستستمر. وهي الآن، على الأرجح، تستهدف تحقيق مكسبين: واحد إسرائيلي يتمثل في توجيه ضربة عسكرية إلى قدرات المقاومة في غزة («حماس» وسواها). والثاني عربي (!)، لتأديب «حماس»، وخصوصاً بسبب استعصائها على الاحتواء، وبسبب تحالفها مع «العدو» السياسي والمذهبي المتمثل في المحور السوري ـــــ الإيراني وشركائه في المقاومة أو الاعتراض أو حتى القلق!
ليس من المنطقي الرهان على أن التغيير (وهو كان شعار حملته) الذي سيدخله الرئيس الأميركي المنتخب، على سياسة الإدارة الأميركية الخارجية، سيكون كبيراً. إن سياسة الإدارة العامة، تحددها مصالح الكتل الاقتصادية والمالية الاحتكارية الكبرى، لا رغبات هذا الرئيس أو ذاك، مهما حاول ذلك. ولذلك يجب توقع أن النهج الراهن السائد في المنطقة وما نجم عنه من صيغ وتحالفات وتوجهات، سيستمر كذلك. التعديل سيطاول، في أحسن الحالات، بعض الأساليب، أما الأهداف في السيطرة والهيمنة، فستبقى قائمة. ينطبق ذلك خصوصاً على العلاقة الأميركية ـــــ الإسرائيلية. ولهذا السبب، ولأسباب عديدة أخرى، من المتوقع أن يستمر النهج التصعيدي الحالي، وخصوصاً تجاه الشعب الفلسطيني. وهذا التصعيد، لن يدّخر وسيلة إلا وسيعتمدها: سواء كانت عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو أمنية...
ويستدعي إدراك هذا الواقع، الارتقاء في عمل القوى المتضررة إلى مستوى التحديات التي يطرحها الواقع الجديد و«الحلف الجديد»! لقد توزعت حتى الآن، صيغ الاعتراض، على ردود فعل، حسب الزمان المكان، بعضها سياسي وبعضها عسكري. وفي كلتا الحالتين لم ترتق ردود الفعل هذه إلى مستوى مواجهة شاملة ذات برنامج وأهداف وخطط شاملة ومنسقة ومتكاملة وجدية! إن الاكتفاء مثلاً، بالجانب العسكري، دون الجوانب الأخرى، لم يعد كافياً، ولا حتى ملبياً لذلك الشق نفسه، ما دامت المواجهة لم تعد فقط مع عدو خارجي يحتل أرضاً أو يشنّ عدواناً أو يهدد سيادة بلد، خلافاً لإرادة أصحاب هذه الأرض أو إرادة ذلك البلد أو الشعب... إن ما يجري هو عدوان من نوع أخطر، يشنّه حلف من أعداء الخارج وقوى الداخل، بتنسيق، لأهداف واحدة في أكثرها، ولخدمة مشروع هيمنة على المنطقة ومصائرها وثرواتها تحت عنوان «الشرق الأوسط الجديد»، أو مواجهة الخطر الفارسي، أو الخطر المذهبي، أو قوى «الشر» أو «الإرهاب».
لا شك أن دروس التجربة ستترك آثارها على الطور الراهن من المجابهة: بالنسبة إلى «حماس»، وبالنسبة إلى قوى أخرى، فضلاً عن قطاعات شعبية واسعة جداً دفعتها المجازر الصهيونية، ودفعها التواطؤ والتآمر ممّن يفترض بهم عكس ذلك، إلى استنتاجات كبيرة. لكن ذلك يجب أن يكون جزءاً من خطة تجذير أبعد وأعمق، توصلت إليها بعض القوى سريعاً، من أن المستهدف ليس دين أو مذهب هذه القوة أو تلك. المستهدف هو موقف الاعتراض والمقاومة. وموقف الاعتراض والمقاومة هذا يجب أن يتطور إلى مستوى مشروع شامل ومتكامل العناصر السياسية والعسكرية والاقتصادية والتنموية والتحررية والثقافية ـــــ الحضارية!
* كاتب وسياسي لبناني