أنسي الحاجالخلاصة هي الشهداء
بعض الظروف، كحرب غزّة، تستوجب أن يقف المرء أَمامها ليراها، لا مراقباً من بعيد. ولا «متضامناً» (اقرأْ: مبرّئاً ذمّته) ولا معلّقاً. وخصوصاً رجاءً بلا «خبراء استراتيجيين» على الشاشة.
مأساتنا تُلخّصها أبلغ تلخيص جثث أطفال قطاع غزّة المعروضة بالعشرات كمومياءات الأنتيكخانة في القاهرة. هؤلاء الملائكة القتلى هم عار إسرائيل الدائم ولا مبرّر إطلاقاً. عارٌ لا يعوّض عنه زعيق الجماهير الاستعراضي ولا «مساعي» الحكَّام وتلفوناتهم بعضهم لبعض، ولا صواريخ يطلقها من جنوب لبنان مجهولون هم في نتيجة أعمالهم عملاء لإسرائيل، ولا خطابات محنَّطي مجلس الأمن وقراراتهم المضحكة.
والذين جلسوا أو وقفوا إلى الأمام من الغارات والقنابل في غزّة لم يكونوا غير شهدائها. ولو لم تكن غزّة لكان لبنان. ولو لم يكن لبنان لكان العراق. الباقون هم في حرزٍ حريز، قدَّموا ما هو لإسرائيل وأميركا أغلى من الأرواح: قدّموا المصالح. واقتصرت وطنيّتهم على دفع الآخرين نحو الموت.
يوم لم تكن الانقلابات العسكريّة ضروريةً في الغالب أمطرتْ انقلابات. اليوم وقد باتت مُلحّة لا نجد غير موظّفين يُكرّشون ويؤدّون التحيّة لمغتصبي السلطة. انتهت القومية العربية مع عبد الناصر والبعث مع حافظ الأسد وأمل الانقلاب مع فشل الحزب القومي في انقلابه على فؤاد شهاب. أصبحت الانقلابات مادة أفريقيّة بعدما كانت أميركو ـــــ لاتينيّة. وأسوأ ما في الموضوع أن فساد أوضاعنا الداخلية وتعفّنها بدل أن يؤدّيا بنا إلى الانتفاض عليهما وتغييرهما بأيّة وسيلة كانت، أفضيا إلى مداعبة كابوسٍ كالانقلاب العسكري. ونحن نعرف سلفاً أنه المزراب بعد الدَلْف.
ما دام قد رُسم لنا أن بديل الطغيان هو الأصوليّة الإسلاميّة، وبديل الفساد والتعفُّن هو العودة إلى العشائرية، فماذا يبقى؟ يبدو أن الرابط الأساسي بين هذه المعطيات هو الإرهاب. إرهاب الدولة وإرهاب العصابات. لا إسلام ولا مسيحيّة. أمّا اليهوديّة الحديثة والمتمثّلة بحكّام إسرائيل فلا يظهر عليها عوارض مشكلة مع دمويّتها، ويجب أن نعود إلى التوراة ونَفَرٍ من أنبيائها العنصريّين لنشتمَّ رائحةَ نَدَم، والأغلب هو ندم على تقصير اليهود في ذبح أعدائهم.
ولا مفاضلة ممكنة فجميع المعروضات، باستثناء الشهداء، كاسدة. أيُّ حاكمٍ تستطيع أن تسمعه أكثر من ثوانٍ قبل أن تكسر التلفزيون أو تطحن أسنانك غيظاً؟ وأيُّ «معارضٍ» لهذا الحاكم؟ أيُّ «فصيل» فلسطيني؟ أيُّ محلّل هيكلي؟ أيُّ خبير عميل؟ أيُّ نبّاح لا يأتي شكله المرعب وصوته القاتل، إلّا بالاشمئزاز من العرب؟
الوقت أكثر وأنضج من أيّ وقت في تاريخ العرب لتغيير كلّ شيء. لنَفْض اليد من الجميع وحَرْق الذاكرة. وإن لم تنتج الحالة الراهنة ثوّاراً يقيمون عهد الحريّة والكرامة والحقّ فسيستمر الانحدار إلى ما لا نهاية.

عبقريّات الفشل
الفشل «دعوة» مثل النجاح. الحداثة في الفنّ والأدب عمّمت نماذج متعدّدة للفاشلين. رمبو، مثلاً، اخترق سماء الشعر ثم هوى. نموذج الشهاب: «نجح» كتابةً وكسر التقليد بالفرار من عبقريّته.
ملّلارميه فشلٌ آخر: فَشَلُ اللغة في «أَخْذ» كل التعبير. فشل التحكّم في نظام التعبير تحكّماً كاملاً. الاستسلام للاختناق، بعد انتفاضات باهرة. مع مللارميه تنتهي مغامرة المُطْلَق ببلوغ العيّ، لكن النهاية لديه أمست بداية لدى أجيال من الشعراء. بداية ودعوة منذ البداية. تلك بعض مشكلة الشعر الحديث في العقود الأخيرة: البدء من نهاية تجربة بإعلان الفشل وانتهاجه طريقة، هو استسلامٌ بلا صراع وموتٌ قبل الحياة. فرادةُ مأزق مللارميه أنّه لم يعرف مآله إلّا بعد خوض المعركة. لم يخضها مهزوماً بل آل إلى الهزيمة. نستطيع القول، بهذا المعنى: ومَن في النهاية لم ينهزم؟
... إلّا الذين لم يشعروا.
فشلٌ آخر: نيتشه. وقبله: ساد. وقبلهما: سقراط. وإن نظرنا من زوايا متنوّعة، أوشكت السلسلة أن لا تنتهي. لكأنَّ تاريخَ الفكرِ حكاياتُ انطفاء.
أوقيانوس العتمة يتربَّص. لا يحتاج لغير الانتظار. ما طارَ طيرٌ وارتفعْ إلّا كما طار وقعْ. بهذه البساطة الشعبيّة. وإذا صمَّم ألّا يطير «وَقَعَ» دون أن يطير. التصق بأرضه دون أن يستمتع لحظةً بمجازفة فراقها.
هل نجح الأنبياء في أديانهم التي تعمّ الدنيا؟ نجحت الأديان أن تعمّ الدنيا ولكن إلى أيِّ حدّ هي أديانهم؟ وهل نجح ماركس في ماركسيّته أم نجح معتنقوه في «اقتباسه»؟ وهل مقياسُ النجاحِ هو الانتشارُ أم شعورُ الكاتب أو المفكر بأنّه بَلَغَ هدفه؟ وهل يُبْلَغ الهدف ويستقيل المسافر من مسيرته أم هي الأنفاسُ أهدافٌ متوالية؟
وهل حقّاً فشل الذين فشلوا؟ معظمهم، إن لم نقل جميعهم، أخفقوا ومع هذا فتحوا العصر الذي أعقبهم. مللارميه فَتَحَ على اختباراتٍ لا نهاية لها. ساد على فرويد وعلى هتلر وستالين معاً. رمبو على صميم الحداثة. سقراط على المسيح. نيتشه على القرنين العشرين والحادي والعشرين حتى الآن.
بشريّة تقتفي آثار «الفاشلين»، لأنّها تشعر بلا وعيها أنهم دفعوا ثمناً باهظاً بالنيابة عنها، وربّما من أجلها، من أجل شيءٍ فيها، شيءٍ لها.
بشريّة كانت وما زالت تقتل الشهداء لتعبدهم وتعبد الآلهة لتقتلهم.
فشلٌُ كان وما زال هو الهاوية التي تَصْعَد.

زعبرة
يَسْتلفت تعتيم بعض المؤلّفين على أسماء معيَّنة لأسباب شخصيّة من حقد أو غيرة أو عقد بارانويّة. الحادثُ قديمٌ ومتكرّر بين الموتورين والفاشلين إذا مُكِّنوا من وسيلة. وفي المجتمعات الساذجة والشفاهيّة بنوعٍ خاص يجب أن لا يُمكَّنوا. استطراداً عكسياً: متى يحصل لا التعتيم وحده بل النقد الصارم القاسي بحقّ مَن يستحقّون التأديب لا المجاملة؟ الشيء بنقيضه يُذْكَر: كنتُ أطالعُ دراسةً محورها أحد أدباء القرن الماضي ولم أقع فيها إلّا على المدائح والخرافات. أيُّ نَفْعٍ لأدبنا أن يُتَرْجَم إذا لم تكن فيه وفينا حقيقة؟
ما أسهلَ الزعبرة في برج بابل!

سرابُ الوجه
سرّ الموناليزا؟
«فعلُ المجامعة، والأعضاء التي يستعملها، لهي من البشاعة بحيث لو لم يكن هناك جمال الوجوه وتَزَيُّنُ الشريكينِ وجموحُ الانطلاقة، لخسرت الطبيعةُ الجنسَ البشريّ».
عبارةٌ كتبها في «دفاتره» صاحب الجوكوندا أو الموناليزا، ليوناردو دا فنشي.

نَحْس
عندما نقول عن فلان إنه يَنْحس، فليس أنه ينحس على الدوام عامداً متعمّداً، بل هو أحياناً يرسل إشعاعاته المدمّرة بدون وعي منه. إنها طبيعته، جَبْلَتُه، ولا حيلةَ له أَمامها حتى لو أراد معاكستها. إلّا إذا صمّم على مكافحة ذاته تصميمَ الإرادةِ الفدائيّة.
ما معنى ذلك؟ أحد معانيه أن لا شيء، خارج النعمة أو المعجزة، يستطيع إقامة توازنٍ مع القَدَر غير الإرادة. توازنٌ نسبيّ، مهزوز، ولكننا لا نملك سواه. في الحقيقة نحن لا نملكه بل نملك احتمالاته، نملك مبدأه، والباقي يتوقّف على الجهد. والجهد جبّار وأحد شروطه نَفْس خيّرة نيّرة ترى وحوشها وتأبى أن يخرّبوا حواليها. عَظَمتها أنها تسعى بكلِّ قواها إلى حصرِ الضرر في نفسها.
على الأقل في ما يتعلق بأشخاص يريد لهم الناحسُ الخيرَ لا الشرّ. وإذا أراد الشرّ فغالباً يصيب، وغالباً يصيب حتّى لو لم يُرد بوعيه، ولا يواجه صعوبةً إلّا عندما تومض إشعاعاته في اتجاه شخصٍ أشدّ نحساً منه.


عابرات

كنْ وحدكَ داخلك مدى ما تريد، قَدْر ما يُراد بك، ومقدار ما تُؤخذ: لن تكون وحدك. لم تُعط هذه المساحة وأنت في أحشاء الأمّ فكيف تُعْطاها وملء حواسك خليط العالم؟
نحن مأهولون وفارغون، وما يسكننا ليس الملء بل الخواء.
■ ■ ■
ما تقوله هو الشغب الذي يُنَشّز على وحدتك، لا صفاء هذه الوحدة. الوحدة في صفائها لا تعرف حاجة إلى قول.
■ ■ ■
اخترقْ حدودكَ أنت قبل أن تصرخ على الوجود.
■ ■ ■
ما أشدَّ ما يكون السكون حولك عندما يأخذ صخبكَ النفسي في التلاطم مهدّداً بإطاحة الجدران! سكونٌ هو نوع من أنواع التنصّل.
لو تَصَايح العالمُ بملء حناجره لما وصل إلى مسمعك غير حشرجات. لا شيءَ، لا شيء يصيحُ أقوى من هدير الفكر.
■ ■ ■
التراجيكي الصارخ ثقيلُ الظلّ، الأفضل منه، الأعمق، هو التراجيكي الخافت خفوتَ الأَسَد المصاب، أو الكلب الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة وحيداً مع توجّع نظراته، التي لا ينقطع حنانها على البشر حتّى وهي تودّع الحياة.