خضر سلامةيحدها من الغرب بحرٌ عربي، من الشرق أرضٌ عربية ومن الجنوب عمقٌ عربي (ولو كره الخائنون)، يحدها من الضفيرة الخضراء صوت طبول تبشر بالواحات وبالزيتون وبالشعر الفصيح، ومن الضفيرة السوداء أعراس نصر تدمن الفرح ولا تعرف الحداد، فالحداد للمهزومين، ويحدها من ضفيرتها الحمراء وجوه كثيرين ممن لم تتسع العولمة لأسمائهم فأصبحوا مجرد أرقام، ومن الضفيرة البيضاء طير حمام، يلغم غصن الزيتون ويكتب فوق الحيطان الإقليمية للمخيّم: «لا تصالح على الدم حتى بدم!»، لذا، كان لقبها غزة، فصار لقبنا غزة.. قيل مئة، بل سبعمئة، بل ألف قتيل، قلنا ونحن نرقب يديه تقتسمان معولاً وبندقية: «لن يقتلوا الشعب ولا التراب، سيظل لنا في الغد صبية جميلة، تتسرب من فوهة المدافع وتتساقط كحبيبات الندى من جبين السماء على حطام الوطن ــــ الحلم، تطرح ثوب عرسها على وجه الأحزان وتصرّح: لن نسحب قيأنا عن نجمة إسرائيل». غزة، نشرة أرصاد جوية: ثلجٌ يسقط على سرير أوروبا، رياحٌ تهز أسواق أميركا وتتلاعب بالدولار وبعباده، مطرٌ يداعب ثغر أفريقيةٍ تشحذ ماءً في زمن الملح، وقذائف يحملها الغيم من حيث ندري إلى حيث نعشق، بكت المذيعة دمعتين وابتسمت إرضاءً للجمهور، وبكينا ستين عاماً ومتنا خجلاً من فضيحة القبور. غزة هذا الصباح، امرأةٌ تتعطر بقصائد الرثاء وبرقيات التعزية، تحصي من بقوا فوق الأرض، وتتأكد من أن الآخرين الراحلين ما زالوا يرابطون تحت الأرض حراساً لجذور القضية، أو في برادات الجثث يحرسون دماءهم من لصوص الدم، يسألها مراسلٌ أجنبي يبحث عن خبرٍ يليق بالصفحة الأخيرة في ضمير العالم: «ماذا عن المرأة الحامل المذبوحة من النهد إلى النهد؟ أجنينها مدنيّ أعزل؟» تقول: بل فدائي، كان سيولد غداً، يصنع بسنّه الأول خنجراً متمرداً، يطعن به قلب وزارة الحرب الإسرائيلية ويغنّي: «لن نكون شعب هنودٍ حمر».
غزة، فتىً يتزيّن بالحجارة فوق دكة المسرح، فتىً يهرّب السجائر من عينيّ أمه المتمزقتين تحت عجلات القذائف، هل يستحق الوطنُ الذي يرسمه الفتى بدخان السجائر على جدران الهواء عناءَ الموتِ فداه؟ قالَ: يستحق!
أرصفة غزة تمسمر يدي غاصبها بالركام، تطلعك على آخر إنجازات إسرائيل، 1ــــ «اعتقلت قواتنا منشوراتٍ سريةٍ تبشر بالمسيح، وتزعم أن في عينيه زرقة السماء قبل قدوم الطائرة، وأن في زنده سمرة الطفل اللاهث خلف موعد اغتياله بأحدث ما أنتجت الحضارة من حقد». 2ــــ «قبضت قواتنا على أربع فتياتٍ أصررن على ملء جرارهن من غبار الشوارع المدمرة، ويزعمن أن في هذا الغبار سر الخلود لأمة تقوم من ألمها بعد كل صفعة». 3ــــ «اغتالت قواتنا عصفورين كانا يحضران لغارة حبٍ في بالٍ شريدٍ لشعب ما زال يصر على أنه شعبٌ شاعر رغم المقابر».
من غزة، إلى غزة، عن غزة، ظرف المكان ومنبع الزمان، وخبر الحدث وزحمة الحديث، كنت هناك عند الكتابة على صوت قذيفة، وبعد الكتابة بثلاثين شهيداً أو أكثر «كثيراً».
يا هذا الدم، لا تسامحنا إذا ابتعدنا عنك، ولا تنكرنا إذا اقتربنا منك، فلنا في المأساة أرصدة لا تنضب ولو حاصروها قليلاً. يا أمماً تتقاذف الإدانات، غزة صحيفة أعمالكم، تخرج إليكم من فطرة التمسك بثدي الأرض، تغتالكم برمح الكرامة، وتبقى بعد أن تذهبوا إلى أسفار خرابكم.
وتبقى، فوق صدوركم، شاهرةً عنوان القضية البريدي: غزة، على كتف يافا، طريق الجلجلة والجليل، بعد الضفة بثلاثة أنبياء، دولة فلسطين العربية.