يسهل في باريس العثور على أطفال تبنتهم عائلات فرنسية من دور أيتام في لبنان. إنهم أصحاب بشرة داكنة، يستمتعون بدفء عوائلهم الجديدة، يتمتعون بحقوق أي مواطن فرنسي، وقد شاء القدر أن ينقذهم من مشاكل كثيرة يواجهونها في لبنان، بعضها يتعلق بالتنظيم القانوني لحياة «اللقيط»، وبعضها الآخر مرتبط بالنظرة العنصرية تجاههم، وغني عن القول أن مستقبل هؤلاء في لبنان مظلم وبلا أفق

باريس ـــ جلنار واكيم
«لبنانية الولادة. سوداء اللون، فرنسة الجنسية» هكذا يمكن التعريف بماري كارولين (6 أعوام)، لون بشرتها يدل على انتماء أحد أبويها الأفريقي. تسألها من أين هي؟ فتشرح لك بكل هدوء أنها كانت طفلة صغيرة في ميتم للراهبات في لبنان. وتضيف أن أبويها بالتبني أخذاها من الميتم، ثم تتحدث ماري كارولين عن راهبة اسمها ماري، وتخبرك أن هذه الراهبة هي التي اعتنت بها منذ ولادتها وهي التي وجدت لها أبوين لتعيش معهما. تحتفظ الطفلة بصورة الراهبة وبصورة إيزابيل وفانسان أبويها «الجديدين».
تسكن ماري اليوم في باريس مع أبويها بالتبني، الأب مهندس اتصالات والأم مستشارة قانونية، تتابع ماري تحصيلها العلمي وتدرس البيانو والباليه. لم يخف الأبوان أمر التبني على الابنة السمراء، تقول أمها «نحن أشقران وبشرة ماري داكنة، مما يجعل ادّعاء مسألة الصلة البيولوجية أمامها أمراً صعباً، حرصنا على أن نكون صريحين معها، هذا الخيار هو الأسلم من الناحية التربوية».
ماري لم تحظ بفرصة حمل الهوية اللبنانية. في 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2002 عُثر عليها رضيعة مرمية قرب مكب للنفايات في بيروت، ولم يكن وزنها يزيد عن كيلو ونصف...
ماري واحدة من أطفال أصحاب بشرة داكنة، رعتهم دور أيتام لبنانية، واختارت عائلات فرنسية أن تتبناهم، تقول إيزابيل إن أختها متزوجة من شاب لبناني، و«باتت الصلة مع هذا البلد وطيدة. كما أن هناك شبكات مافيا تعمل اليوم في مسائل التبني خارج لبنان. أما في لبنان فالعملية سريعة ومضمونة، لأن ثمة جمعيات لبنانية تتواصل مع الجمعيات الفرنسية».
هيأ فانسان وإيزابيل الأوراق والملفات الرسمية، توجها إلى لبنان، وقصدا برفقة أقرباء ميتماً يستقبل رضّعاً، شعرت الراهبة المسؤولة عن الأطفال بأن الزوجين الفرنسيين سيكونان أبوين صالحين، وأن أقاربهما سيكوّنون عائلة كبيرة تحضن أيضاً الطفل الجديد. وبعد مرور شهر على هذه الزيارة، اتصلت الراهبة بإيزابيل لتعلمها بوجود فتاة عمرها لا يتجاوز بضعة أسابيع، وحرصت الراهبة على ذكر أن الفتاة لا تبدو لبنانية الأصل وأن لون بشرتها داكن. وأضافت أن هوية الأبوين البيولوجيين مجهولة.
من مكب النفايات إلى الميتم ثم إلى المنزل، كانت ماري قد اجتازت مآسيَ كثيرة، دون أن تدرك تماماً ما حصل لها. ودون أن تدرك أسئلة قد تدور في ذهن من يعرف قصتها، ما هو المصير الذي كانت هذه الفتاة ستلقاه لو بقيت في لبنان، وأية مشاكل كان يمكن أن تواجهها؟
رين قريبة إيزابيل التي تعيش في لبنان سعيدة لمصير ماري الجديد، وهي تدرك أن الصغيرة لو بقيت في لبنان لواجهت معضلات كثيرة، أبرزها «المشكلة العرقية»، فماري داكنة البشرة وتقاسيم وجهها أكثر شبهاً بالهنود أو السريلانكيات الذين يعيشون في لبنان. هذا إضافة إلى أنها كانت ستعاني من نظرة البعض الشديدة العنصرية تجاه هؤلاء العاملين في لبنان أو تجاه الشعوب ذات البشرة الداكنة.
وتذكّر رين بأن ماري وفق القوانين اللبنانية هي طفلة «لقيطة»، ولن تتمتع بكل الحقوق التي يتمتع بها أي طفل «شرعي» في البلاد.
على مقربة من منزل إيزابيل وفانسان الفرنسي تسكن أليس، هي أيضاً ولدت في لبنان وتبنتها عائلة فرنسية، الوالد محام وعضو في مجلس بلدية باريس، أليس الطفلة المدللة تملأ منزل الأبوين فرحاً، هي أيضاً ذات بشرة داكنة وقد تم تبنيها من لبنان. تبدو الطفلة سعيدة بالدفء العائلي الذي تتمتع به، لا تعرف الكثير عن لبنان، وتقول بكلمات طفولية بسيطة إنها تحب أبويها كثيراً.
أليس ستظل وحيدة، لكن ماري ستحظى قريباً بأخ، ولكن هذه المرة سيُتبنّى من كولومبيا، وذلك يعود إلى أن لائحة الراغبين في التبني من لبنان طويلة، ولم يعد فانسان وإيزابيل يمثّلان أولوية بالنسبة للجمعيات التي تؤمّن التواصل بين لبنان وفرنسا.
تعيش الفتاتان اليوم في باريس، ترتادان المدرسة كل يوم وتتحدثان باللغة الفرنسية عن الإجازات ورحلات السفر، تحملان الهوية الفرنسية وجواز سفر.
تختفي ماري كارولين للحظات في غرفتها، ترجع حاملة تذكاراً من خشب الأرز، تذكاراً حملته لها الراهبة التي تحبها من وطن ولادتها. لم تعد ماري في زيارة إلى لبنان، ولكنها تحفظ عنه صورة جميلة لا تتناسب مع ما يعانيه أقرانها في لبنان بسبب اختلاف لون بشرتهم، أو بسبب جرم لم يرتكبوه، هو جرم الولادة من صلب أبوين مجهولين.


تعتيم مضر

التبني مسألة مألوفة في فرنسا، ولا تتعرض للكثير من الشوائب والمشاكل الاجتماعية كما هي الحال في لبنان. اختيار أطفال من دول العالم الثالث أصبح ظاهرة في فرنسا. ولكن ماذا عن لبنان؟ ألا يلفتنا الأطفال المنقولون إلى فرنسا إلى مشكلة أكثر عمقاً في بلادنا، ألا وهي لماذا يُرمى هؤلاء الأطفال، ما هو شكل العلاقات التي تجمع بين الأبوين البيولوجين، هل من الممكن أن يكون بعضهم ابناً لأب لبناني وأم من العاملات الأجنبيات مثلاً؟
لماذا يرفض أصحاب دور الأيتام التي تستقبل هؤلاء الأولاد الإعلان عنها؟ ولماذا تبقى قضية هؤلاء الأطفال تخضع لتعتيم؟
أخيراً، يجدر التشديد مرة جديدة على ضرورة إعادة النظر في تسمية «لقيط» التي تطلق على طفل، فترافقه مدى الحياة وتحرمه من حقوقه المدنية الوسياسية والاجتماعية