فداء عيتانيكل يوم يمر، يستحق مقاتلو المقاومة الفلسطينية المزيد من الاحترام. هم للمرة الألف، يقاتلون وحدهم، دفاعاً عن قضيتهم، التي حمّلناها حيناً موجبات التحرير، وأحياناً أخرى مسؤوليات التحرر وخلفيّاته ومطالبه. اليوم هؤلاء المقاومون يقاتلون ومن خلفهم شاشات العالم تنقل صوراً عن الفظائع التي يرتكبها عدوهم (عدونا)، ويتضامن المواطنون العرب معهم بأبسط أشكال التضامن: التظاهر والغضب والبكاء، بينما يذهب بعض العرب إلى استنباط أشكال من التفاهة في التضامن لا تقل عن رفع الأحذية شعاراً لمرحلتهم.
كل يوم يمرّ، يمكن أن يذكّرنا باجتياح إسرائيل للبنان عام 1982، حين ضُربت منظمة التحرير الفلسطينية، وحينها كان العالم يشاهد مباريات كأس العالم في كرة القدم، فلم يتضامن معنا إلّا الإسرائيليون من حركة «السلام الآن». ثمّ انتهت المعركة إلى تراجع شعارات «الحرب الشعبية طريقاً للتحرير»، و«التغيير يمر من القدس»... وشهدت الأعوام التالية تراجع كل مشاريع التغيير والتطوير في المنطقة، لمصلحة تقدّم ما يسميه مدير الموساد السابق افرايم هاليفي، في كتابه «الرجل في الظل»، «تقدم قوى الحرية والديموقراطية والمشروع الغربي».
اليوم يتقدم مشروع آخر، سمّه ما شئت، الممانعة، المقاومة، لا يكاد يرى بعض المقاتلين من أجله غضاضة في التعاون مع كل من يريد القتال إلى جانبهم كتفاً الى كتف. إلا أنهم يصدمون دائماً بأن لا قوى تمتلك الارادة الكافية للعمل، ويعودون إلى سوق استنتاجات مضى على وجودها تحت الشمس، مئات الأعوام: «الأزمة في القيادات لا في الشعوب».
ولم تتمكن معركة غزة، التي لم نرَ منذ عقود طويلة معركة مشابهة لها من حيث اجتماع العناصر فيها ـــــ من الموقع إلى قوى القتال، إلى وحدة مجموعات عدة من المقاومين ـــــ لم تتمكن هذه المعركة في أسبوعها الثالث، من تجميع عقول من يجب عليهم تثمير ما حصل، تماماً كما مضت حرب تموز دون أن تتمكن من إعطاء دفعة جدية لقوى المقاومة، اللهم إلا تلك الإسلامية الطابع.
وبغض النظر عن هزيمة «حماس» بمعنى صدور قرارات دولية وإقليمية تحسم وقف النار لغير مصلحتها، أو فوزها بمعنى فرض انسحاب إسرائيلي وفتح المعابر من دون تضييق الخناق على حركة التسلح، لم تجمع المعركة الدائرة في غزة إلى اليوم، من يمكنه أن يجيب عن السؤال بشأن الاستثمار السياسي، وعن اليوم التالي لما بعد توقف القتال في مناطق غزة.
ولا يمكن أن تكون الكلفة البشرية هي التي تدفع إلى التراجع أو التلكؤ عن خوض معارك رئيسية في المنطقة العربية، ولا حجم الدمار، وإن كان المعتدلون العرب قد نسوا أثناء تقليدهم لمشية الحجل الغربي، كيف يسير أبناء شعبهم. فهم يتعامون عن أن الوقت والدم والدمار المادي في هذه المنطقة، لا يجري تقويمها كما في العالم الغربي، الذي باتوا يستمدون منه تقديراتهم وقراءاتهم للأحداث والمجريات.
إلا أن ما يجب أن نسأل عنه اليوم، وما سيكون محط خيبة أو آمال إضافية، هو كيفية الاستفادة القصوى من كل ما دفعناه، وخاصة أنها ليست المرة الأولى التي نتكبّد فيها أثماناً باهظة في الصراع مع الإسرائيلي، واستطراداً الولايات المتحدة الأميركية.
فلا كلفة حرب عام 1948 كانت بسيطة، ولا عدوان عام 1956 كان هامشياً في كلفته البشرية، ولا هزيمة حزيران من عام 1967، ولا خسائر حرب عام 1973، وخياناتها بنافلة، ولا عملية لبنان عام 1972 واجتياحا 1978 و1982 كانت خسائرها قليلة، فكلها أدّت إلى مقتل عشرات الألوف من العرب، بعضهم جنود ومقاومون، وأكثرهم من المدنيين.
وإن كان البعض يتخيّل أن تلك الحروب اندرجت في سياق تراجع المقاومة والقضية الفلسطينية، وسط قرارات عربية كبيرة وصغيرة لتطويع القرار الوطني الفلسطيني وجعله يصب في بلاط الحاكم العربي، فلا يكفي اليوم القول إن الفرق (كل الفرق) هو في مرحلة صعود المقاومة ومشروعها في المنطقة. فهذا الطرح سبق أن خبرناه وشاهدناه في السابق، إن لم يكن مرة واحدة فأكثر، حين كانت الستينيات من القرن الماضي حبلى بحركات التحرر المدعومة من الاتحاد السوفياتي وتمتلك مشروعاً لا يكاد كوكب الأرض نفسه يكفيه.
اليوم، الحد الأدنى من التواضع أكثر من ضرورة، ولا بد من إعادة إنتاج حركة سياسية على مستوى العالم العربي، لا تأخذ الحالة الإخوانية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد لأحلام العرب وطموحاتهم، ولا تقع في أخطاء الشيخ أسامة بن لادن وحركته الكونية.
ولا بد من خروج شخص من تحت أنقاض غزة (إسماعيل هنية أو غيره) يمكنه أن يلاقي زعيم المقاومة في لبنان حسن نصر الله، الذي خرج هو الآخر من تحت أنقاض الضاحية الجنوبية عام 2006، من دون أن ينسيا درسين أساسيين: ـــــ الانتصار الفوقي سرعان ما يتبخر إذا لم يترافق مع بنية تحتية تؤمن طموحات المواطنين في المنطقة أو تخدمها. وهنا ليس المقصود خدمة مصالح السنة والشيعة المباشرة. و ـــــ خسارة هذه المعركة يمكن أن تقع بعد أعوام من الانتصار العسكري فيها، إذا لم نستغل الفرص التاريخية التي قدّمها إلينا العدو لإعادة صياغة شكل العلاقات السنية ـــــ السنية، والسنية ـــــ الشيعية في المنطقة، وفرصة إعادة صياغة حركة تحرر وطنية وعربية.