strong>ميشال فارشافسكي *‏خلافاً لما يكتبه معظم الصحافيّين، ليس ما يدور الآن في غزة حرباً. فالحرب تفترض مواجهة بين قوّتين ‏مسلّحتين. أمّا العدو الذي حدّدته حكومة تل أبيب، فليس جيشاً ولا حتى ميليشيا، بل هو غزّة: رقعة ‏متناهية الصغر من الأرض، ومليون ونصف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال. قبل ستّ سنوات، ‏أعلن الاستراتيجيون الإسرائيليون أن غزة «كيان إرهابي»، ما يعني أنه ينبغي شطبها. لستُ ممّن يستخدم ‏بخفة كلمة «جينوسيد» أو إبادة، ولكن الأمر الجاري هنا هو إبادة. ونيّة الاستراتيجيّين الإسرائيليّين هي قتل ‏أكبر عدد ممكن من الناس من أجل «طبع الوعي الفلسطيني بالحديد الحامي»، وهو مفهوم استُعيد ‏هذه الأيام، وكان قد أدلى به رئيس الأركان، موشي يعالون، عام ‏‎2002‎‏.
ولمرّة، قرّر مسؤولو إسرائيل السياسيّون والعسكريّون استخلاص الدروس من فشلهم السابق، وبالتحديد ‏من الإفلاس الذي مثّله اجتياح لبنان عام ‏‎2006‎‏. وهكذا، هُم يبقون إرادياً أهداف اجتياح غزّة مبهمة، ‏ويحذّرون من التصريحات الطنّانة بشأن «استئصال حماس»، مفضّلين الكلام على «إضعافها»، ومدركين ‏أن مبادرة دولية ستجبرهم عاجلاً أو آجلاً على وقف النار. وإذا كانت هذه المبادرة الدولية بطيئة في الإعلان عن نفسها، فليس ذلك من باب الصدفة. فالولايات ‏المتحدة، والاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية، متواطئة علناً مع إسرائيل. بل إن الرئيس مبارك يزايد ‏في هذا الاتجاه، طالباً من الوزراء الأوروبيين المتجوّلين في المنطقة «ألا يسمحوا لحماس بالنجاح وبأن ‏تخرج من المواجهة الحالية منتصرة» (كما ذكرت صحيفة هآرتس في عدد ‏‎6‎‏ كانون الثاني/ يناير). وهم ‏يتشاركون جميعاً في الإطار الاستراتيجي الذي حدّده المحافظون الجدد عن الحرب ــ الشاملة ــ الدائمة ــ ‏والاستباقية، وهي حملة شرسة فعلية يقودها دعاة «صدام الحضارات» ضد التهديد الجديد الشامل المتمثل ‏بالإسلام السياسي، بل وبالإسلام فحسب. وبدعم من الرئيس المصري، أرجأت القوى الغربية إلى أبعد ما ‏يمكنها قراراً من مجلس الأمن، وهو قرار كان رئيس الوزراء الإسرائيلي قد أعلن سلفاً أن تل أبيب لن ‏تأخذه على أية حال بالاعتبار!‏
غزة اليوم، كما كان لبنان عام ‏‎2006‎، هي خط الجبهة الأمامي لمواجهة كونيّة بين قوى الاستعمار العائد ‏وشعوب العالم. وكما كان حزب الله عام ‏‎2006‎، حماس اليوم هي الوحدة المتقدّمة من المقاومة الشاملة ‏بمواجهة الإمبراطورية. وبغض النظر عن الرأي في خطها السياسي وفلسفتها الاجتماعية، ينبغي أن تتمكن ‏حماس من الاعتماد على تضامننا، تضامن كل الحركات الاجتماعية التقدمية في المعمورة، التي رفعت ‏شعار «عالم آخر ممكن وضروري». وهو تضامن لا يخيب: فقد خرجنا بمئات الآلاف في شوارع مدننا ‏وقرانا، نطالب بوقف المجزرة، ونطالب بوقف الحصار الذي يجوع أهل غزة، ومن أجل فرض ‏مفاوضات مباشرة وفورية مع حماس. وقد تظاهر حوالى ثمانية آلاف شخص في شوارع تل أبيب حول ‏هذه المطالب عينها، وكانوا عرباً ويهوداً متّحدين، وواجهوا بيئة معادية بل ومتوعّدة. ولكنّهم كانوا ‏مدركين أنهم لا يقومون بما هو عادل ومحقّ وحسب، بل بما سيمنح يوماً ذلك الجمهور المعادي، الذي ‏يشحنه نحو التطرّف قادةٌ مجرمون بقدر ما هم غير مسؤولين، سيمنحه فرصة أن يجد يوماً مكانه في ‏المشرق العربي، بحرية وأمان ومساواة.‏
* كاتب إسرائيلي ومؤسّس «مركز المعلومات البديلة» (‏AIC‏) في القدس المحتلة‏