محمد خواجه *في اليوم الثامن لعملية «الرصاص المصهور» على قطاع غزة، انطلقت المرحلة البرية بعدما استنفد سلاح الجو بنك أهدافه، بأكثر من ألف غارة جوية على مدن القطاع ومخيماته (أي بمعدّل ثلاث غارات لكل كيلومتر مربع). ولم تمنع هذه الغارات العنيفة، قوى المقاومة من الاستمرار في رمي الصواريخ على مدن جنوب الكيان الصهيوني ومستوطناته، ما تسبّب بحالة من الذعر والشلل. هذا الوضع «أجبر» ربابنة الحرب (أولمرت، باراك، ليفني) على اتخاذ قرار المجابهة البرية، بعدما يئسوا من إمكان حسم الحرب من خلال الجهد الجوي فقط. وكان الجيش الإسرائيلي قد حشد حوالى فرقة مدرعة ــ350 دبابة ــ تساندها ألوية غولاني وجعفاتي والمظليّون، على تخوم قطاع غزة، من الشمال والشرق، استعداداً للحرب البرية. وانطلاق الأخيرة لم يؤدِّ إلى توقف الحرب الجوية على الفلسطينيين، فالقوات الإسرائيلية الغازية، بحاجة إلى الدعم الجوي والبحري لتمهيد الطريق أمامها، وشّل قدرة العدو على مواجهتها.
بعد مرور ما يقارب 10 أيام على بدء العملية البرية، يصعب تحديد أهدافها وحدودها، نظراً لتناقض تصريحات القادة الإسرائيليين بشأنها؛ فبعضهم يتحدث عن تدمير بنية «حماس» العسكرية ولو تطلّب الأمر السيطرة على القطاع، فيما يكتفي آخرون بـ«لي ذراعها»، وفرض وقف إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل.
لكن يمكن الحكم من خلال المجريات الميدانية، بأن القوات الإسرائيلية تنوي تقطيع أوصال القطاع إلى ثلاثة أجزاء، مع تفادي «قدر الإمكان» الدخول إلى الأماكن ذات الكثافة السكانية العالية. في إطار تنفيذ هذا السيناريو، تقدمت القوات الإسرائيلية من الشمال، ساعية لاحتلال بيت حانون وبيت لاهيا، والتوقف على مشارف مدينة غزة ومخيمي جباليا والشاطئ. أما من الشرق، فتوغّلت وحدات العدو عبر أكثر من محور، مع الإصرار على احتلال تلتي الكاشف والريس، للسيطرة بالنار على الأحياء الشرقية من مدينة غزة.
وتسعى تلك الوحدات إلى تحقيق عملية عزل نيراني للقسم الشمالي من القطاع، بما فيها مدينة غزة. وفي الوقت ذاته، حاولت القوات الإسرائيلية اختراق منطقة الوسط عند الخاصرة الضيقة (8 كيلومترات)، التي تضم مدينة دير البلح ومخيمها، إضافةًَ إلى مخيمات البريج والنصيرات والمغازي، لعزلها عن القسمين الشمالي والجنوبي.
وفي الجنوب، دخلت الدبابات المعادية من معبر صوفا باتجاه مدينة خان يونس ومخيمها، في محاولة لعزل القسم الجنوبي الذي يضم مدينتي رفح وخان يونس ومخيمهما. ومن غير المستبعد إذا تطورت المعارك، أن تعمد القوة المعادية إلى التقدم نحو محور فيلادلفي (رفح) من معبر كرم أبو سالم للاستيلاء عليه، بهدف قطع آخر نقطة اتصال بين القطاع والعالم الخارجي.
إنّ نجاح هذا السيناريو يسمح للعدو بوضع مدن القطاع ومخيماته تحت مرمى نيران الدبابات المباشرة، وبالتالي يستطيع التفاوض مع الطرف الفلسطيني المحاصر من موقع الإملاء. من المستبعد أن يغامر العدو باحتلال كامل القطاع، تجنباً للخسائر العالية، وتكاليف الاحتفاظ به من الناحيتين الأمنية والاجتماعية.
تدل المجريات الميدانية، على أن الفلسطينيين لم يفاجأوا بالحرب البرية، ويبدو أنهم تدارسو السيناريوهات المحتملة، بما فيها السيناريو الذي قاربناه. ويمكن القول إن القوات الإسرائيلية لم تحقق إنجازات ميدانية نوعية حتى الآن؛ فتوغلها اقتصر على مناطق «الفراغ» الخالية من المقاومين، التي يصعب الدفاع عنها. لذا نجد عندما تقدمت تلك القوات إلى مشارف مدينتي غزة وخان يونس، واجهت مقاومة ضارية، أرغمتها على العودة إلى نقاط إنطلاقها.
وتدل نسبة الخسائر التي لحقت بها خلال مواجهات الأسبوع الأول، على أن المقاومين حضّروا مسرح العمليات جيداً، من خلال إعداد «النسفيات»، وزرع الألغام والأشراك، وتحصين العقد الدفاعية. وكان من اللافت نبأ تدمير دبابة ميركافا بواسطة قاذف بـ29، وإذا صدق الأمر فتكون المفاجأة الأولى في هذه المجابهة.
إن السيناريو الذي يسعى العدو إلى تحقيقه، لا يضمن له السيطرة، فعمليات التوغل والاقتراب من المدن والمخيمات ستحمّله خسائر كبيرة، لأن المقاومين الفلسطينيين المدربين على حرب الشوارع، لا يملكون سوى خيار الثبات والقتال الشرس في مواضعهم.
وإذا قُدّر للجيش الإسرائيلي النجاح في تنفيذ خطته، فهذا لا يعني القضاء على المقاومة أو استسلامها، لأن الأجنحة العسكرية التابعة لها، تشبه تركيبة قوات حرب العصابات، القادرة على القتال والصمود وقتاً طويلاً، من دون انتظار الإمدادات أو الأوامر القيادية. وبالتالي هي معدّة «للتعامل» مع العدو واستنزافه، مهما تبدلت الظروف الميدانية.
لا شكّ في أنّ الأيام المقبلة سترسم وجهة الحرب وتقرّر مصيرها. لكنها في كل الأحوال، لن تؤدي إلى قتل روح المقاومة عند الفلسطينيين، حتى لو احتلت القوات الإسرائيلية قطاع غزة. وستكتشف أنها دخلت إلى وكر الدبابير. عندها سيتمنّى الإسرائيليون من جديد «لو ابتلع البحر غزة» التي ستبقى «لعنة» تلاحق الاحتلال.
* باحث في الشؤون العسكرية