نهلة الشهالمرعب، بشع ومرعب أن يتطلب تصديق العالم لرواية الفلسطينيين، وانفكاكه عن رواية المعتدي، ثمناً لا يطاق، هو حياة أطفال غزة. يتوالى مرور جثثهم الممزقة، المحترقة، أمام عدسات كاميرات العالم! ولكنّ الأبشع والأكثر إرعاباً هو أن يحاول السيد محمود عباس إنقاذ رواية المعتدي، في هذه اللحظة بالذات، عبر تصريحه في القاهرة منذ يومين بأنه «لا يريد المقاومة، إذا كان الثمن هو إبادة الشعب الفلسطيني»!
حاولت إسرائيل منذ بدء عدوانها أن تحقق ثلاثة أمور، ففشلت:
1ـــــ أن تضرب المدنيين الفلسطينيين بأكثر ما يمكن من الضراوة، على أمل أن يثوروا وينقلبوا على حماس، منشدين النجاة بأي طريقة.
2ـــــ أن توقع ضربة قاصمة بقيادة حماس.
3ـــــ أن تدمر البنية التحتية التقنية للمقاومة، بما فيها القدرة على استخدام الصواريخ، والقدرة على المقاومة العسكرية. وتلك هي الأهداف نفسها التي سعت إليها أثناء عدوانها على لبنان صيف 2006. إسرائيل لا تتعلم الدرس، بل هي لا تتخيّل المنطق المقابل الذي يحمل الناس على رفض الاستسلام. كما أن صواريخ المقاومة ما زالت تنطلق، بل هي تصيب قاعدة بلماخيم، على بعد عشرين كيلومتراً من تل أبيب.
ولكن الأهم من الصواريخ نفسها هو الواقع القائم اليوم بين الفصائل المقاوِمة في غزة: هذه «كتائب المقاومة الوطنية» تعلن عن عملياتها، وها هما الجبهتان الشعبية والديموقراطية، إضافة إلى سرايا القدس وكتائب القسام، ترفع من درجة التنسيق بين مقاتليها، وها هم مناضلو فتح في غزة ينخرطون في المواجهة، بل يتولّون مهمّات عملياتية أساسية، بينما تعود إلى الارتفاع أصوات كوادر فتح المتململة من إمعان بعض قيادتها في محاولات جرف هذا الفصيل الوطني المناضل نحو مستنقع التواطؤ مع العدوان... فلا تنظيم الحرب الأهلية نفع، ولا تأجيج الروح الحزبية أو الفصائلية الضيقة نفع، ولا الإفساد نفع، ولا التلويح بمكاسب جرّاء التفاهم مع المحتل والتحول إلى عنوان لتلقّي المساعدات الدولية، التي كلما ازداد تواطؤ السلطات المانحة لها، ارتفع حجم أرقامها.
واليوم تقف إسرائيل أمام مأزقها. فلا هي طالت ما أملته بفعل القصف الهمجي، ولا هي تستطيع التقدم والدخول في شوارع المدن ومخيمات اللاجئين في القطاع وتحمّل كلفة المواجهة المباشرة، وقد تصدّت لها مجموعات المقاومين لدى محاولتها ذلك.
واليوم يقول وزير خارجية الفاتيكان الكاردينال مارتينو، إن غزة معسكر اعتقال جماعي، فتعترض إسرائيل وتطلب مراجعة التصريح، ويرفض الفاتيكان ذلك.
واليوم يدعو الحزب الاشتراكي الحاكم في إسبانيا إلى تظاهرة للتنديد بالعدوان الإسرائيلي، فيخرج ربع مليون إلى الشارع، وتعترض إسرائيل دون طائل، بينما في فرنسا وبريطانيا يخرج مئات الألوف في تظاهرات لا تنقطع، ولا ينفع في لجمها افتعال حوادث حول مقارّ العبادة اليهودية، والتلويح بانتشاء «معاداة السامية». بل تنضم حركات يهودية معادية للصهيونية أو مناهضة لسياسة إسرائيل إلى تلك التظاهرات، وتحمّل إسرائيل مسؤولية تهديد أمن اليهود في العالم والسير بالإسرائيليين نحو الكارثة.
فما هي مقاييس النصر والهزيمة يا ترى؟
أليست إسرائيل تبيد على أية حال الشعب الفلسطيني، تجوّعه وتخنقه وتسجنه وتقتله، وتدفع من لا يموت إما إلى الرحيل وإما إلى المذلة، بما فيها مذلة التعاون مع الاحتلال؟ ما الذي يقدمه الاحتلال للفلسطينيين، وهو عمل على سحق العملية السلمية، موسّعاً المستوطنات في الضفة الغربية، بانياً الجدار، مضاعفاً عدد الحواجز والطرق الالتفافية، محاصراً غزة، قاطعاً عنها الماء والكهرباء والدواء والغذاء، مستخفاً بتصريحات المسؤولين الدوليين وكلهم، من الأونروا إلى الصليب الأحمر الدولي، حذّروا على مدى الأشهر الماضية من كارثة إنسانية في غزة؟ ماذا تريد إسرائيل؟ أن تعربد وتفعل كل ذلك ولا من يعترض؟ وأن يرتضي العالم توصيف من يعترض بأنه إرهابي؟ هذا منطق لم يعد يصدّقه سوى الرئيس المغادر بوش ووزيرة خارجيته، وبعض قادة الحكومات الأوروبية المعزولين عن الجرح الذي أوقعته إسرائيل بالضمير العالمي. وها هي طواقم الأطباء الأوروبيين المتبرّعين بجهدهم تنطلق إلى غزة وتدخلها تحت القصف وتلتحق بمستشفيات الشفاء وخان يونس ورفح. وهو منطق لم يعد يصدّقه سوى بعض المتسلّطين على الحكم في الدول العربية الذين رهنوا بقاءهم في السلطة برضى الإدارة الأميركية عليهم، وهم يؤدّون دوراً فعّالاً في التغطية على المنطق الإجرامي لإسرائيل.