فادية حطيطأتصفّح عدد جريدة «الحياة» الصادر في تاريخ 12 كانون الأول 2008، فإذا بعنوان يلفت نظري. إنه عن الطائفية في معناها ومبناها. بدأت بالقراءة، ولكنّ السطر الأول كان كافياً ليجعلني أقف. في جملة واحدة تمكّن كاتب المقالة، فالح عبد الجبار، من اختصار سيرورة التنميط بأسلوب لا يمكن أن يكون أكثر حصافة. تقول الجملة الابتدائية: « لعل «الطائفية» اليوم أكثر الكلمات شيوعاً في الخطاب السياسي للقادة، والحديث اليومي لرجل الشارع، وثرثرات ربات البيوت». هكذا إذاً، الناس مقسّمون إلى مراتب، وكلامهم كذلك. القادة هم الأرفع مرتبة ولهم رفعة الكلام المبني، أي «الخطاب»، ورجل الشارع هو متوسط الرتبة وله الكلام العمومي، أي «الحديث». أما ربات البيوت، وهنّ في مرتبة الدونية، فلهنّ الكلام المبتذل، أي «الثرثرة».
لا يتطلّب الأمر جهداً كبيراً لتقويض هذا التصنيف. فهل كل سياسي يمكن إدراجه في باب القيادة؟ وهل كل خطاب سياسي هو محمول من قائد؟ أليس من خطاب سياسي تحمله ربة بيت مثلاً أو رجل شارع؟ ثم ألا يوافق الكاتب على أن الكثير مما ينطق به بعض القادة هو من قبيل الثرثرة؟ ويمكن نسج العديد من الأسئلة على هذا التصنيف الشديد التنميط.
أنا ما يهمني في هذه المقولة تحديداً هو إطلاق صفة الثرثرة المهينة على منطوق ربات البيوت حصراً. والثرثرة تعريفاً كلام تافه لا هدف له ولا بنية جامعة. ولكن لندقق في ما تقوله ربات البيوت ومضمونه. الطبخ، التنظيف، المصروف، شؤون الأولاد، شؤون الأقارب والجيران، أي كل ما هو يومي ومعيشي. فهل جميع هذه الشؤون تدخل في باب التفاهة؟ اليوم مثلاً في غزة، هل نتّهم ربات البيوت هناك بأنهن يهدرن وقتهن بالثرثرة في شؤون اليومي وعليهن مواجهة الواقع المرير، فيتكلمن كالرجال ويخطبن كالقادة؟ ولو فعلن ذلك، من يٌُعنى بطعام الصغار وبتغيير حفاضاتهم وتضميد جروحهم ومن يهتم بما يحدث للجيران وللأقارب؟
أكمل المقالة فأقرأ «وعلى حالنا في استخدام الأشياء والكلمات، لا نكترث كثيراً لمعنى الطائفية. فكل ما يدخل حقل اللغة يبدو لنا بدهياً، قائماً بذاته، برهانه هو وجوده. وما دامت كلمة الطائفية موجودة، فهي بالبداهة مفهومة». وكأني بالكاتب نفسه يضع الإصبع على الجرح. إنه سوء استخدام الأشياء والكلمات، وعدم التدقيق، لا فقط بما نقوله، بل بما نكتبه أيضاً.
ثم يكمل «مشكلتنا الطائفية، أي الاختلاف في المذاهب والتأويلات، اكتسبت معنى جديداً بالانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة الحديثة المدنية، التي تقوم زعماً على مبدأ المواطنة، حيث كل مواطن حبة قمح، وكل حبة تساوي أية حبة أخرى». وأنا هنا أوافق الكاتب تماماً، مشكلتنا هي في ذلك الزعم تحديداً، وفي تلك المسافة ما بين الواقع والتعبير عنه، أو بحسب عنوان المقالة ما بين المبنى والمعنى. ولكن تنبغي الإشارة إلى أن من يؤسس لذلك الزعم ليس السياسيون، بل هم أوّلاً المثقفون الذين يظنون أنه «ما دامت كلمة المواطنة موجودة فهي بالبداهة مفهومة»، وهذا بالتأكيد خطأ.