اكتشف ابن الفرّان الدمشقي المسرح عندما زارت فرقة «الكوميدي فرانسيز» دمشق في ثلاثينيات القرن الماضي. ثم استقلّ تيسير السعدي الباص إلى فلسطين، ومنها انتقل إلى مصر ليكون أوّل طالب تمثيل من سوريا. هكذا أصبح من روّاد المسرح السوري... ولم يتقاعد إلّا بعدما ضعف بصره
خليل صويلح
في مقهى «الروضة» وسط دمشق، كان على تيسير السعدي أن يستعيد ذكريات موغلة في القدم عن تاريخ المسرح السوري بوصفه واحداً من روّاده الأوائل. اختبر الرجل التسعيني عن كثب كواليس المسرح ومكابداته الأولى، حين كانت مهنة «الكركوزاتي» صفة مرذولة وغير محببة. لكنّ الفتى الذي ولد بعد اشتعال الحرب العالمية الأولى بسنة واحدة في «حي البحصة» الدمشقي، قادته أقداره لكي يكون ممثلاً. والده صاحبُ فرن، ينتمي إلى عائلة دينية صاحبة طريقة صوفية، ولم يُرد لابنه أن يصبح فرّاناً مثله، فأرسله إلى المدرسة ليتعّلم. هكذا انتهى به المطاف في مدرسة «اللاييك». هناك اكتشف ما هو المسرح الحقيقي، إثر قدوم فرقة «الكوميدي فرانسيز» La Comédie française إلى دمشق في ثلاثينيات القرن المنصرم. كان العرض مقتبساً عن «أوديب ملكاً» لسوفوكليس، وقد اختاره مخرج العرض ليؤدّي دور ابن أوديب. قبلها، كان الفتى تيسير السعدي مأخوذاً بعروض «خيال الظل»، وليالي الحكواتي في المقاهي الشعبية، وأفلام السينما التي كانت تعرضها صالة «الكوزموغراف» الملاصقة لبيته. يتذكّر حادثة قديمة كأنها وقعت للتو «تسللت من سرير المرض وذهبت إلى السينما وحضرت فيلمين دفعة واحدة، وكنت متأكداً من أنني لن أنال عقاباً من والدي». هكذا تعلّم فنّ الإلقاء على يد شاعر فرنسي يدعى جيرار فيليب، كما عمل كومبارساً في الفرق المسرحية المصرية التي كانت تؤم دمشق في تلك الفترة.
تيسير السعدي الذي ستصدر مذكراته قريباً بعنوان «ممثل في سبعة أدوار»، يروي بشغف مكابدات رحلته الأولى إلى مصر لدراسة فن التمثيل. «استقللت القطار من محطة الحجاز في دمشق سنة 1945 إلى حيفا على أن أكمل طريقي من هناك إلى القاهرة، لأكتشف قبل وصولي فلسطين أنّ عصابات «الهاغانا» اليهودية قد فجّرت «جسر بنات يعقوب» فاضطّر القطار إلى إيقاف رحلته. عدت إلى دمشق، وقد قرّرت السفر في الباص إلى فلسطين، ومن هناك ركبت القطار إلى القاهرة». في القاهرة، انتسب تيسير السعدي إلى معهد التمثيل كأوّل طالب تمثيل من سوريا، إلى جانب فريد شوقي وفاتن حمامة، وشكري سرحان، وسميحة أيوب، لكنّ إفلاسه بعد فترة قصيرة من إقامته، اضطره إلى مغادرة المعهد للدراسة في معهد خاص يسمح له بالعمل أثناء الدراسة. «في شارع عماد الدين، عَمِلتُ في كازينو بديعة مصابني، ثم تعرفتُ إلى آسيا داغر التي كانت تدير شركة للإنتاج السينمائي تدعى «لوتس فيلم»، فعمِلت لديها في أدوار كومبارس مقابل نصف جنيه عن الدور، قبل أن يختارني هنري بركات سنة 1946 لبطولة فيلم «الهانم» أمام فاتن حمامة».
بعد سنتين، عاد تيسير السعدي إلى دمشق محمّلاً بمفاهيم حديثة للمسرح تعلّمها على أيدي معلمين كبار أمثال جورج أبيض وزكي طليمات وطه حسين. كانت البلاد تعيش اضطرابات سياسيّة في ظلّ الانتداب الفرنسي، لكن هذا الواقع لم يمنع الفنان الشاب من تأسيس «فرقة التمثيل والموسيقى»، وهي أول فرقة مسرحية سورية تحمل مواصفات المسرح الحديث، إذ كانت العروض السابقة كما يشرح السعدي «عبارة عن فواصل موسيقية واسكتشات ضاحكة، وشخصيات تنطق باللهجة المصرية، فاعتمدت اللهجة المحلية والفصحى في عروض الفرقة». في حقبة الأربعينيات، تعرّف تيسير السعدي إلى حكمت محسن، وهو قصاص شعبي، ترك أثراً لا يمحى في تاريخ الفن الشعبي في سوريا، إذ لا تزال التمثيليات الإذاعية التي كتبها تُبثّ من إذاعة دمشق حتّى اليوم. هكذا بدأت حقبة جديدة في معنى الفرجة المسرحية، وهو ما لفت انتباه رئيس الجمهورية آنذاك، الشيخ محمد تاج الحسيني الذي أمر بإنشاء «الفرقة الحكومية للتمثيل»، وكان السعدي واحداً من أعضائها براتب شهري قدره مئة ليرة سورية، «كنا قبل تأسيس الفرقة بالكاد نحصل على أجر يكفي لشراء سجائر «تاطلي سرت» بالمفرّق». الموت المباغت للرئيس أجهض المشروع بعد مرحلة البروفات، ولم يجد أعضاء الفرقة سوى التوجه إلى التمثيليات الإذاعية، فكانت «تمثيلية الأسبوع» إحدى المحطّات الأساسية التي ينتظرها المستمعون. البصمة الأساسية في مسيرة تيسير السعدي أتت مع تمثيلية «صابر وصبرية» بمشاركة رفيقة دربه صبا المحمودي، وهي عبارة عن حوارية بين زوجين تسلط الضوء على مشكلات وقضايا اجتماعيّة ضمن قالب كوميدي ساخر، وقد استمرت إذاعة دمشق ببث هذه السلسلة على مدى ربع قرن. إنّه على أي حال أفضّل من كان يعبّر عن «زمن الراديو».
بعد توقفه عن العمل الإذاعي بسبب «التقاعد»، شارك تيسير السعدي في أدوار لافتة في الدراما التلفزيونية وبعض الأعمال السينمائية والمسرحية، وكانت آخر مشاركاته في مسلسل «أيام شامية»، بعدما فقد بصره تقريباً، إذ منعه الأطباء من القراءة.
في مذكراته يستدعي زمناً جميلاً، وحماسة «لم تعد متوافرة في جيل اليوم»، كما يضيء جوانب مثيرة من حياة مدينة دمشق بحواريها الشعبية وسينماتها ومسارحها التي أُزيلت أو أغلقت أبوابها، إضافةً إلى مئات الصور والوثائق والرسائل النادرة التي يحتفظ بها في أرشيفه الشخصي. بين الأوراق التي يحتفظ بها وثيقة تحمل توقيع يوسف وهبي، تفيد أنه كان يعمل في فرقة «رمسيس» المسرحية، وأخرى بتوقيع نزار قباني الذي كان يعمل مستشاراً ثقافياً في السفارة السورية في القاهرة، تؤكد صحة الشهادة التي حصل عليها السعدي من معهد التمثيل في القاهرة.
مكابداته الطويلة في الفنّ لم تتح له شيخوخة سعيدة، كما كنا نتوقع، إذ اضطر إلى أن يهجر منزله المستأجر منذ خمسينيات القرن العشرين إلى بيت في الضواحي، بعدما أقام صاحب المنزل دعوى إخلاء ضده «هذا البيت هو تاريخي وهويتي، أحفظ كل زاوية من زواياه، حتى بعدما فقدت بصري».
هكذا باتت مكتبته الضخمة تعيش عزلة اضطرارية، وإذا بالصمت يلف أعمال شكسبير وغوغول ونصوص خيال الظلّ والسير الشعبية، و«مجنون ليلى» التي لا يزال تيسير السعدي يحفظ مقاطع منها، وكأنه لم يغادر رائحة الخشبة التي رافقت حياته المديدة. لا ينكر هذا الفنان الرائد المتعة التي أضفاها الفن على حياته، لكنه في المقابل يرى أن فناني اليوم قطفوا مكاسب كبيرة من دون أن يبذلوا الجهد الذي بذله جيل الرواد.


5 تواريخ

1917
الولادة في دمشق

1945
سافر إلى القاهرة وانتسب إلى معهد التمثيل

1948
عاد إلى دمشق وأسّس «الفرقة السورية للتمثيل والموسيقى»

1953
أخرج تمثيلية «صابر وصبرية» في إذاعة دمشق

2009
يُصدر قريباً مذكراته التي تضيء جوانب مثيرة من حياة مدينة دمشق بحواريها الشعبية وسينماتها ومسارحها التي أغلقت أبوابها