strong>عثمان تزغارت *على هامش زيارته الأخيرة إلى بيروت، كشف الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، في 12 كانون الأول / ديسمبر الماضي، أن الرئيس المنتخب باراك أوباما أسرَّ إليه خلال لقاء خاص بينهما، عُقد بعد فوز أوباما بالرئاسة، بأنه (أي أوباما) يعتزم أن يجعل من الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي أحد الملفات الأولى التي سيتصدّى لها منذ أيامه الأولى في البيت الأبيض.
للأسف، لم تعمِّر تلك النبرة المتفائلة التي تحدّث بها كارتر، طويلاً، وهو المعروف في السنوات الأخيرة بمساعيه الحثيثة من أجل السلام، والذي أصدر قبل عامين كتاباً مدوّياً بعنوان «فلسطين: السلام لا الأبارتهايد».
فبعد أقل من أسبوعين على مكاشفته البيروتية، أطلقت إسرائيل في غزة حربها العدوانية الجديدة التي أدمت الضمير الإنساني بمغالاتها اللامحدودة في «جبروت القوة»، من دون أي ضابط أخلاقي أو سياسي. إلى حد أن كاتب الافتتاحيات في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، جدعون ليفي، وصفها بـ«العنف الدموي الأعمى» الذي «يزرع الحقد لا في غزة فحسب، بل في العالم أجمع الذي ينتابه الغثيان وهو يتابع هذه الصور المروّعة على شاشات التلفزيون». بينما اعتبرها الصحافي الفرنسي الكبير، جان دانييل، في افتتاحيته الأسبوعية في «لو نوفيل أوبسرفاتور» بمثابة «انتكاسة مخزية» للضمير اليهودي، قائلاً: «إن الجزء اليهودي في نفسي، الذي ليس من عادتي استعراضه، والذي بقي وفياً لذكرى ضحايا «المحرقة»، يمزّقه التأثر من شدة الإحساس بالعار والغضب حيال هذه الانتكاسة المخزية». (أليس الأجدر بنا كمثقفين وصحافيين عرب تثمين مثل هذه الأصوات النزيهة والشجاعة لمثقفين غربيين ويهود معادين لحروب العدوان الإسرائيلية، بدل الترويج لتلك الأطروحة التعميمية الحمقاء التي تريد الإيحاء بأن الرأي العام الغربي وصُنّاعه، والرأي العام اليهودي ــــ سواء في إسرائيل أو في الشتات ــــ يميلان بأكملهما وبمختلف أطيافهما إلى التأييد الأعمى للوثة «جنون القوة» لدى جنرالات تل أبيب؟).
حيال التعنّت والعنف الدموي الإسرائيلي، هل يمكن أن تنجح مختلف المساعي والمبادرات الفرنكو ــــ أورو ــــ مصرو ــــ أممية في وضع حد لحمّام الدم الغزّاوي؟
لا يسع المرء إلا أن يتمنى ذلك. فالوضع الإنساني المتردّي في القطاع يجعل التوصّل إلى «وقف لإطلاق النار» أولوية عاجلة، بالرغم من أن هذا المصطلح بحاجة إلى تدقيق. فهو يفترض وجود طرفين متحاربين، في حين أن ما يجري فعلياً في غزة أقرب إلى «حرب إبادة» أحادية الجانب مسلّطة على غالبية من المدنيين العزل، بالرغم من المحاولات الإسرائيلية التستر وراء الحجج الواهية المتعلقة بمطاردة أقلية من المسلحين أو المتشددين.
بكل الأحوال، سواء كان مؤقتاً أو دائماً، إنسانياً أم سياسياً، فإن «وقف إطلاق النار» وحده لن يكفي لإخراج المنطقة من دوامة العنف، و«إسكات صوت السلاح نهائياًَ»، حسب مقولة الرئيس ميتران الشهيرة، من أجل إفساح المجال أمام منطق الدبلوماسية والتسوية التفاوضية.
لذا، فإن تاريخ استلام الإدارة الأميركية الجديدة السلطة رسمياً، في20 كانون الثاني / يناير الجاري، يُرتقب أن يكون منعطفاً حاسماً. فالتحليل الموضوعي للأمور (على افتراض أن الأوضاع المأساوية الحالية تترك مجالاً للمنطق والموضوعية!) يبيّن أن معطيات جيوستراتيجية عدة ترجّح أن نبرة كارتر المتفائلة صائبة إلى حدّ كبير. فوصول إدارة ديموقراطية مجدّداً إلى الحكم، سترافقها، لا محالة، إعادة صياغة في العمق للسياسة الخارجية الأميركية، من أجل إحداث قطيعة مع الإرث الكارثي لثماني سنوات من السياسات البوشية.
ومثل هذه القطيعة لا يمكن أن تكون لها أيّ صدقية ما لم تتضمن إعادة نظر جذرية في العلاقات الأميركية مع العالم العربي ــــ الإسلامي. والفكرة الطموحة التي أطلقها أوباما خلال حملته الانتخابية، بالدعوة لعقد مؤتمر دولي موسّع بين القيادات الأميركية وممثلين عن العالم الإسلامي بمختلف حساسياته، من أجل تدارس أسباب «سوء الفهم» الذي يكتنف العلاقات بينهما، ليست لديها أيّ حظوظ فعلية بأن ترى النور ما لم تتخلّ الإدارة الأميركية الجديدة عن سياسة الدعم الأعمى واللامشروط لإسرائيل (التي جعل منها «المحافظون الجدد» حجر أساس سياستهم في الشرق الأوسط، خلال ولايتي الرئيس بوش)، للعودة إلى دور «وسيط السلام» الذي تمليه على أميركا مكانتها كقوة عظمى وحيدة.
لا شكّ في أن هذه المعطيات الأميركية المستجدّة أدّت دوراً أكبر من أيّ حسابات داخلية صغيرة، ذات طابع انتخابي، في دفع الحكومة الإسرائيلية لشن هذه الحرب في هذا التوقيت بالذات. فحكومة إيهود أولمرت، التي يبدو أنها لم تستوعب تماماً الدروس الجيوستراتيجية لمغامرتها العسكرية ضد حزب الله والمقاومة اللبنانية، خلال حرب تموز 2006، يقودها، مجدّداً، التوهم بأنها تستطيع، من خلال هذه الحرب الدموية في غزة، التخلص من «حماس» وسحقها عسكرياً، لاستبعادها من أي مسار سلام مقبل قد تفرضه الإدارة الأميركية الجديدة على الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.
فهل تتحقق تطلعات السلام وآماله هذه، التي تولّدت من انتخاب أوباما، بالرغم من محاولات جنرالات تل أبيب اليائسة للعب في ربع الساعة الأخير، كما يقال في الاصطلاح الرياضي؟
كثيرون يراهنون إيجاباً على تولي هيلاري كلينتون منصب وزيرة الخارجية في الإدارة الجديدة. بعض المراقبين يرون أن وجود زوجها، الرئيس السابق بيل كلينتون، إلى جانبها، سيكون له مفعول إيجابي في إنجاح مساعيها في الشرق الأوسط، نظراً للصدقية التي يحظى بها الرئيس السابق في المنطقة. وهي صدقية تزايدت بأثر رجعي، بعد خروجه من الحكم، بفعل المنحى الكارثي الذي اتخذته السياسة الأميركية في المنطقة خلال عهد خلفه جورج بوش.
أما البعض الآخر من المحلّلين، فإنه يراهن، بالعكس، على ما يُسمّى في الاصطلاح النفسي، بـ«عقدة بينيلوبي المعكوسة»، التي ستدفع هيلاري كلينتون، بفعل علاقاتها الإشكالية والمعقّدة مع زوجها، إلى السعي للنجاح بأيّ ثمن حيث فشل هو: تحقيق سلام عادل ودائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين!
بالطبع، مثل هذه الرهانات الطريفة، التي تحاول استقراء الأحداث من خلال عملية الإسقاط السياسي لبعض مفاهيم التحليل النفسي، بالرغم من أنها لا تخلو من بعض الصواب، لا تكفي وحدها كأداة لاستشراف المستجدات الجيوسياسية وقراءتها موضوعياً.
فالسياسة التي ستنتهجها الخارجية الأميركية في ظلّ الإدارة الجديدة لن تكون مرتبطة بشخصية هيلاري كلينتون فحسب، بل تتحكم فيها أيضاً خلافات ملموسة، سياسية وإيديولوجية، بين مختلف أجنحة الحزب الديموقراطي. والإشكالية الأساسية التي بدأت تبرز في صفوف الفريق المحيط بهيلاري كلينتون، قبل موعد الاستلام الرسمي للسلطة، تتمثل في تيارين متضادين يتنازعانه. الأول يتزعمه المبعوث الخاص السابق في الشرق الأوسط، دنيس روس، الذي ينادي بالإبقاء على «سياسة متشدّدة ثلاثية الأبعاد» ضد إيران وحزب الله و«حماس».
أما التيار الثاني، فيقوده السفير الأميركي السابق في مصر وإسرائيل، دانييل كورتزر، الذي يعيب على دنيس روس ومن معه كونهم «يسعون دائماً لسماع ما تريده إسرائيل، ليحاولوا في ما بعد تسويقه للعرب»!
أيّ من هذين التيارين ستكون له الكلمة الفصل في تحديد المنهج السياسي للخارجية الأميركية الجديدة؟ ولمصلحة من سيميل وزير الخارجية (والدفاع) الجمهوري السابق كولن باول، الذي أعلن تأييده لباراك أوباما، والذي يدور الحديث عن احتمال مرجح جداً بتعيينه «مبعوثاً خاصاً» في الشرق الأوسط؟
على ضوء الإجابات التي ستجدها كل هذه التساؤلات، على الصعيد الملموس، خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، سيتحدّد إلى أي مدى ستتجسّد تطلّعات السلام التي تولّدت من انتخاب أوباما فعلياً على أرض الواقع؟ أم ستتحوّل هذه الآمال، مرة أخرى، إلى عرض شرق ــــ أوسطي جديد لمسرحية بيكيت الشهيرة: «بانتظار غودو»؟

* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس