نوال العلي
حين التقينا أسعد عبد الرحمن في تشرين الثّاني (نوفمبر) الماضي في عمّان، كان الحديث يدور عنه كوسيط مخضرم بين «حماس» و«فتح»، وخصوصاً أنّه أوّل من سعى إلى لقاء بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ومدير المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل الذي كان أحد طلابه في جامعة الكويت. وهو أيضاً مَن دخل في الوساطة للإفراج عن معتقلي «حماس» لدى السلطة الفلسطينية، عندما بدأت الانتفاضة الثانية.
ونحن نعيش المجزرة اليومية في غزّة الآن، يبدو الحديث عن وساطة بين «فتح» و«حماس» أمراً مخجلاً جداً، إن لم يكن بائساً. قال عبد الرحمن، في لقائنا يومها، إنّ الخلاف هذه المرّة لا تصلحه وساطة فرد، وكان متفائلاً بدور قد تؤدّيه سوريا ومصر والسعودية لرأب الصدع! أتخيّل لو سألته اليوم عن ذلك... ربما سيسخر منّي بصوته الجهوري قائلاً: أي رأب؟ وأي صدع؟ أو بالأحرى أي دور؟ نراجع كتاباته الأخيرة، فنجده كأنّه يجيب عن تساؤلنا، واصفاً استمرار المناكفات السياسية بين القيادات الفلسطينية بأنّه أمر «لا يمكن أن يستوعبه عقل بشري» في ظل شلّال الدم، وجثث ألف شهيد يزيدون كل لحظة.
التقيناه صبيحة وصوله إلى عمان آتياً من القدس، حيث ألقى، في اليوم السابق للقائنا، خطاباً عاصفاًً في اجتماع المجلس المركزي لـ«منظّمة التحرير الفلسطينية». وكان يتلقّى اتصالاً هاتفيّاً يقطع حديثه كل خمس دقائق، بعدما صار خطابه هو الحديث. «هناك فضيحتان في الداخل»، فإن كان تمديد انتخاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس من قبل المجلس المركزي حقٌّ، إلّا أنّه جاء في إطار «سلسلة الابتزاز» بين حركتي «فتح» و«حماس» المتصارعتين على سلطة غير موجودة. هكذا كان يقرأ الواقع الداخلي الفلسطيني مع تردّد «أحاديث حول حلّ السلطة». كان عبد الرحمن يوصي بإطاحة اللّجنة التنفيذية لـ«فتح» لأنّها غير فعّالة، ولأنّه لا أحد انتخب ياسر عبد ربّه أمين سرّ لها. وخلافاته مع عبد ربه تعود إلى ما قبل هذا الاجتماع الذي غاب عنه عباس وعبد ربه، وكادت أن تصل إلى عراك بالأيدي في منزل الرئيس الفلسطيني... فالتجربة أثبتت أنّه «ليس كل من يدخل منزل عباس آمناً». كان عبد ربه غاضباً من الصوت المعارض في مقالات عبد الرحمن التي تُنشر في سبع صحف عربية.
وقد يقول قائل إنّ في موقف أحمد عبد الرحمن من اللجنة تحامُلاً عليها... لكنه كان معروفاً بـ«العنصر المشاغب»، منذ مرحلة مبكرة في تجربته مع «فتح». يبدو أنّ الأزمة الأخوية الفلسطينية ليست فتحاوية/ حمساوية فقط، بل لطالما كانت فتحاوية/ فتحاوية في كثير من الأحيان، أو بين فتح وأي طرف آخر! لم تَنشأ هذه الأزمة بعد اتفاقية أوسلو التي يرى أسعد عبد الرحمن أنّها أنتجت «وضعاً فلسطينياً في غاية التعقيد»، وفرّقت بين مفاهيم لم يكن يجب أن تنفصل في المسألة الفلسطينية، كبناء المؤسسات والديمقراطية وعلاقة كل ذلك بمقاومة الاحتلال... الأزمة تعود إلى ما قبل ذلك وتدلّ على ذلك الانشقاقات المبكرة في صفوف الجبهة الشعبية التي كان عبد الرحمن أحد مؤسّسيها، بعد لقائه السرّي مع أمينها العام جورج حبش (1961)، وتسلّمه قيادة تنظيمها في لبنان (1969) دون أن يخفى على أحد من كانَ خلف تلك الانشقاقات.
أنت لا تلمح صورة قديمة لعبد الرحمن، تفتش على واحدة بالأسود والأبيض، صورة من ذلك الزمن الفاتن، لكن لا صور له قبل التسعينيات على أبعد تقدير. تدوّن هذا التخمين في الهامش، بينما يسترسل هو في مكتبه في «مؤسسة فلسطين الدولية» في الحديث عن الانقسام الذي يصبّ في مصلحة إسرائيل، ويضرب نبل القضية... ذكرياته مع «الشهيد» ياسر عرفات والراحل محمود درويش مؤطّرة في صور تملأ الجدار.
لنجرّ هذا الزمن إلى الوراء، ولنعد بأسعد عبد الرحمن إلى صوت السجّان في معتقل صرفند وهو يصرخ «الغِ الآن اسمك، لم تعد أسعد عبد الرحمن، أنت الرقم 293».
يا لسخرية الأقدار! مَن كان يظن أنّ أروقة مستشفى «المسكوبية» النظيفة ـــــ حيث ولد أسعد في القدس ـــــ ستصير سجوناً قذرة، تشهد تعذيبه بعد ثلاث وعشرين سنة، بعدما حوّل جيش الاحتلال المستشفى إلى معتقل.
في عام 1967، كان عضواً في قيادة الجبهة الشعبية حين توجّه مع رفاق له عابرين الحدود من الأردن إلى الضفة الغربية محمّلين بالأسلحة، فألقي القبض عليهم في القدس وأودع عبد الرحمن سجن «المسكوبية». استمر تعذيبه 13 شهراً، بعدما أُدين بالدخول غير المشروع وتزوير هويّة إسرائيلية وحكم لمدّة عام. وفي كانون الثاني (يناير) 1969، أُطلق سراحه مُبعداً إلى الأردن ثم إلى بيروت.
تلك التجربة تجدها موثّقةً في «أوراق سجين»، هذا الكتاب الذي نشره «مركز الدراسات الفلسطيني»، حيث عمل عبد الرحمن كأول باحث فيه ما إن أنهى دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت. وكان قد حصل على منحة دراسية من «الأونروا» شريطةَ ألا يدرس العلوم السياسية، فالتحق بالعلوم الإداريّة. ورغم ذلك، نال درجة الماجستير عن أطروحته عن المنظمة الصهيونية العالمية...
ولأسباب عدة، لا يذكر سوى القليل منها، انسحب من العمل الحزبي سنة 1970، مُبقياً على علاقات متميزة مع الفصائل كلها. وهي مسألة صعبة تثير التساؤل أيضاً. ثم غادر إلى كندا بعد حصوله على منحة مرة أخرى للدراسة والعمل مع الشهيد العراقي باسل الكبيسي الذي سيُطلق عبد الرحمن اسمه على ابنه البكر. في 1973، عاد إلى مركز الأبحاث في بيروت، ثم غادر بعد عام إلى الكويت أستاذاً للعلوم السياسية في جامعتها.
برز اسم أسعد عبد الرحمن في الكويت أيضاً التي يصفها بـ«واحة الديموقراطية»، بعدما دمّرت الحرب الأهلية بيروت، ثمّ صار نائباً في المجلس الوطني الكويتي. واستمرت الحال كذلك حتى 1983، حين عاد لتأسيس «مؤسسة عبد الحميد شومان» في الأردن، وبقي مديراً لها حتى 1996، وهو العام الذي اختير فيه عضواً للّجنة التنفيذية للسلطة الفلسطينية، ثم وزيراً لشؤون اللاجئين، ومسؤول اللجنة الرئاسية لمكافحة الفساد. هنا بدأت المشاكل مع أبو عمّار، وأعلن عبد الرحمن قطيعته مع السلطة وتجميد عضويته، فتعامل عرفات مع القطيعة كاستقالة مقبولة، وكان قد حجب الأموال في السابق عن وزارة اللاجئين. لكن ما دخل الوزارة؟ الوزارة بالنسبة إلى أبو عمّار هي الشخص. وهو حين يغضب من الشخص، «بيسكّر الحنفية». في 2000، استقال عبد الرحمن من الوزارة أيضاً، بعد ذهاب عرفات إلى كامب ديفيد لتوقيع الاتفاقية مع إيهود باراك، وجاء قرار عرفات مخالفاً رأي مجلس القيادة «استقلت لأني لست شاهد زور».
عبد الرحمن الآن عضو في اللجنة التنفيذية التي يدعو هو إلى حلّها، ويرى أنّ الفرصة متاحة اليوم لنشوء تيار فلسطيني ثالث وطني ويساري، يقطع الطريق على سياسة المحاصصة التي أعطبت المشروع الوطني الفلسطيني.
تركنا أسعد عبد الرحمن، وهو يصرّ على فكرته، أشهراً قبل حرب الإبادة على غزّة: «بعد وصول الممارسات السياسية إلى ما وصلت إليه، وفصل الضّفة عن القطاع، بات ضرورياً انبثاق هذا التيّار لكي يعيد تأكيد ضرورة التمسّك بنصوص «وثيقة الوفاق الوطني». فالهوية الوطنية الواحدة هي «الإسمنت السياسي» الذي يُبقي على حياة المقاومة».


5 تواريخ

1944
الولادة في القدس
1967
اعتُقل في سجن المسكوبية ثم أُبعد إلى عمّان بعد سنتين
1977
اختير نائباً في البرلمان الكويتي
1983
عُيّن رئيساً لـ«هيئة الموسوعة الفلسطينية» تشرين الثّاني (نوفمبر)
2008
ألقى خطاباً عاصفاً في المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينيّة داعياً إلى وقف التخريب الداخلي فيها