حين ضمّت إسرائيل غزة بعد نكسة 1967، كان اقتصاد القطاع يعتمد بنسبة كبيرة على زراعة الحمضيات، إلا أن الاحتلال فرض سيطرته الكاملة وقيوده التفاضلية على مصادر المياه، ليقضي بذلك على مصدر رزق آلاف الفلسطينيين
إعداد: رنا حايك
يمتد ساحل غزة على طول 40 كلم، ويحتل القطاع مساحة 360 كلم2، نصفها أراضٍ زراعية، فيما تحتل النصف الآخر مناطق سكنية مكتظة يقطن فيها ثلث السكان البالغ عددهم مليوناً ونصف مليون نسمة. بعد عام 1967، دعي المستوطنون اليهود إلى الاستقرار في غزة. أمّمت إسرائيل جميع مصادر المياه، وأعلنت ملكيتها لها وسيطرة الجيش عليها.
منع المحتل سكان القطاع العرب من حفر آبار جديدة من دون إذن مسبق، وفرض القيود على استخدامهم للمياه، كذلك أمر باقتلاع آلاف أشجار الحمضيات، وتدمير أحواض المياه، وسدّ الينابيع الطبيعية والآبار.
في المقابل، لم تُفرَض أية قيود على الصهاينة المستوطنين. بل على العكس من ذلك، دعمت الدولة خدمة توفير المياه بالنسبة إليهم، وفيما فرضت على العرب ضريبة مقدارها دولار واحد وعشرون سنتاً مقابل كل متر مكعب من المياه التي يستهلكونها، اقتصرت الضريبة التي يسدّدها المستوطنون على عشرة سنتات للكمية ذاتها.
ونظراً لأن غزة تسجل أحد أعلى معدلات النمو السكاني في العالم (بين 5.2 و 6%)، فقد أدى الطلب المتزايد إلى اشتداد الضغط على مصادر المياه النادرة أصلاً. لم يكن أمام المواطنين العرب من خيار سوى حفر آبار واستهلاك النطاق المائي في جوف التربة، ما أدى إلى تقلّص الطبقة الصخرية المائية.
وبينما انهار النطاق المائي، بدأت مياه البحر بالتسلل إلى الطبقة المائية الصخرية، ما سبّب أضراراً بالغة بنوعية المياه التي أصبحت غير صالحة للشرب وللري في مناطق عديدة من القطاع. وأضيف إلى هذه المشكلة مشكلة أخرى تفوقها سوءاً، إذ أدى الفقر الذي غرق فيه فلسطينيو غزة بعد احتلالها إلى عجزهم عن تجهيز البنى التحتية وتصريف مياه الصرف الصحي، ما أدى إلى تسرّب مياه الصرف الصحي إلى نطاق المياه الجوفية، وتلويثها.
نتج من ذلك مخاطر صحية بالغة الجدية: فقد سجّلت بين المواطنين، وخصوصاً الأطفال منهم، حالات كثيرة من أمراض الكلى والكبد، معدلات وفاة عالية بين الأطفال، إصابات سرطانية، أمراض معدية تنتقل بالمياه مثل الكوليرا وطفيليات معوية. حاولت «سلطة المياه الفلسطينية» بعد توقيع اتفاقية أوسلو تطوير خطة إدارية لمياه غزة موّلتها وكالة التنمية الأميركية، ونصّت على استيراد المياه من شركات المياه الإسرائيلية وعلى تحلية مياه البحر.
إلا أن الشركات الإسرائيلية سرعان ما توقفت عن إمداد غزة بالمياه، ومصنع التحلية لم يُبنَ، بينما أضرّت الهجمات الإسرائيلية المتكررة بشبكة المياه ودمرتها واستهدفت عمال الصيانة بالقتل خلال أدائهم مهامهم في إصلاح الشبكة. وقد فاقمت هذه الأضرار التي طالت شبكات المياه النقية وأنابيب مياه الصرف الصحي اختلاط المياه الآسنة بالمياه النقية وتلويثها، ما أدى إلى ازدياد حادّ في حالات الأمراض التي تنتقل بالمياه في مناطق عديدة.
بالإضافة إلى ذلك، سبّب العدوان الإسرائيلي على غزة في تموز عام 2006 أضراراً جسيمة في البنى التحتية التي لم يكن قد أعيد إعمارها حين شنّت إسرائيل هجومها الحالي على القطاع. إن هذه الأضرار، التي نتجت من حرمان سكان غزة المياه ومن تحكم إسرائيل بها، هي إحدى الآليات الأساسية في عقيدة التطهير العرقي الصهيونية التي تمارسها إسرائيل تجاه الفلسطينيين. فقد سبق لوزير الدفاع الإسرائيلي السابق، إسحاق رابين، أن صرّح خلال فترة ولايته في الثمانينيات بأن «إسرائيل سوف تعمد خلال السنوات العشر أو العشرين المقبلة إلى خلق الظروف التي تستدعي هجرةً طوعية وطبيعية للاجئين الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية نحو الأردن».
أما أرييل شارون، مهندس خطة الانسحاب من غزة، فقد أوضح آلية تطبيق تلك الخطة حين شرحها قائلاً: «لا يسعنا حشر الناس في مركبات واقتيادهم بعيداً. فأنا أفضّل انتهاج سياسة إيجابية، وخلق ظروف واقعية تدفع المواطنين إلى المغادرة من تلقاء أنفسهم».
أما أولمرت، وريث شارون، فقد اعترف أخيراً بالتزامه تجاه مبدأ «أرض إسرائيل» التاريخية، حين أكّد أخيراً إيمانه في «حق اليهود الأبدي والتاريخي في كامل الأرض الفلسطينية».
تمثّل هذ التصريحات خير دليل على أن معظم الزعماء والقادة الإسرائيليين يخفون التزاماً إيديولوجياً بـ«أرض إسرائيل من النبع إلى البحر» رغم ما يبدو عليهم من مرونة في تقديم تنازلات للفلسطينيين. فقد ركزت السياسات الإسرائيلية خلال ستين عاماً على خلق وقائع على الأرض تخدم هدفهم الأساسي في طرد الفلسطينيين من أرضهم، كان حرمانهم المياه إحداها.