«فينيقيا» سفينة مبنيّة بحسب التخطيط الفينيقي ترفع العلم السوري وتبحر هذه الأيام أمام شواطئ السودان. السفينة بنيت في أرواد وعُدّت من الأحداث المميزة في إطار برنامج دمشق عاصمة ثقافية. لا يدخل لبنان في مسار رحلة السفينة. مشروع اعتُبر سياسياً، أو حرباً بسفينة فينيقية أخرى

جوان فرشخ بجالي
«فينيقيا» و«أوروبا» سفينتان لفكرة واحدة: إظهار مهارة الفينيقيين في الإبحار. المشروعان كانا متكاملين لو لم تدخل السياسة في سياقهما. فمشروع «فينيقيا» أُسس له في لندن ونُفّذ في سوريا. فيما المشروع الآخر جرى التخطيط له في بيروت وينفّذ في لبنان. «فينيقيا» هو مشروع مغامر بريطاني يدعى فيليب بيل، كان رجل أعمال ناجحاً متخصصاً في مجال الاستثمارات، ولكنه قرر عام 2003 ترك مناصبه الإدارية وبدء مغامراته مع البحر. تجربته الأولى كانت في إندونيسيا حيث أعاد بناء سفينة بحسب الشكل المعروف تاريخياً للسفن الإندونسية، وأبحر عليها في المحيط الأطلسي، فتكلّلت مهمته بالنجاح، ونال الجوائز وانهالت عليه التكريمات، ممّا دفعه إلى دراسة حضارات أخرى، وطرق إبحار على مياه مختلفة، فاختار الفينيقيين. ويشرح بيل فكرته على موقعه الإلكتروني فيقول إن «الهدف منها تثبيت نص للمؤرخ الإغريقي هيرودتس كتبه في الـ600 قبل الميلاد، وصف خلاله سفر بحارة فينيقيين حول أفريقيا انطلاقاً من البحر الأحمر، وحول الرجاء الصالح. تلك الممرات تعدّ الأخطر في العالم، ففي رأس الرجاء الصالح الأمواج يصل ارتفاعها إلى 20 متراً. ولكن بيل قرّر أن يقوم بالرحلة، ليرى بعينيه إن كان ذلك ممكناً. فبدأت الأبحاث حول شكل السفن الفينيقية، ومن ثم حول إمكان بنائها، فوقع اختياره على أرواد، وتبنت السلطات السورية الحدث وموّلته ونفّذته واتفقت مع بيل على تفاصيل الرحلة والسفر. وأصبحت «فينيقيا» جزءاً من احتفالات «دمشق عاصمة الثقافة العربية». فأبحرت السفينة في حضور السيدة الأولى أسماء وجميع الفعّاليات السورية، وفي حفل غنائي وراقص كبير. مشروع جميل ورائد من دون شك، ولولا «تسييس» التاريخ لكان قد حقّق أهدافه العلمية. ولكن، نظرة إلى خارطة رحلة السفينة تظهر أن المشروع سياسي بحت. فالسفينة الفينيقية لن تتوقّف عند سواحل أية مدينة لبنانية أو فلسطينيّة، كما لو أن ليس لصور وصيدا وبيروت وجبيل وعكا أي صلة بتلك الحضارة! كما لو أن الفينيقيّين عاشوا في أرواد فقط!
رحلة فينيقيا تبدأ من سوريا وتنتهي في سوريا، إذا تخطّت الصعوبات والخطر. ويقول بيل «إن الأخطار المحدقة بالرحلة مختلفة ونسبة الفشل تصل إلى 30%. يجب أوّلاً تخطي خطر القراصنة من أمام سواحل الصومال، ثم الإبحار بحسب الرياح (لأن السفينة مزوّدة بشراع واحد فقط وليس عليها أي محرك) إلى رأس الرجاء الصالح، ودراسة كيف ستتلقّى السفينة الخشبية الصغيرة ضربات الأمواج العالية. والفرق الوحيد بينها وبين السفن الفينيقية هو أنها موصولة بالأقمار الاصطناعية، ويراقب المهتمّون والمموّلون كل تحركاتها». والمضحك في هذا المشروع الذي تبنيه السلطات السورية، والذي يرفع العلم السوري فوق السفينة هو أن الطاقم من متطوعين بريطانيين، وأعضاء الفريق ليسوا محترفي ملاحة، ولا هم متخصّصون في السفن القديمة. وهم يؤكدون أنهم سيحاولون حل لغز علمي يتعلق بالتاريخ والآثار، ولكن للأسف ليس على متن تلك الباخرة أحد من أهل هذين الاختصاصين.
مشروع يدّعي أنه علمي بامتياز، وكان له بعض تلك الميزات لو لم يتحوّل إلى أداة «بروباغندا رخيصة». فالادعاء «أن سوريا هي أرض الفينيقيّين والحضارة» إنما هو تحوير بسيط لتاريخ شائك ومشترك بين لبنان وسوريا، حيث يجري التأكيد من خلال الإعلانات التي جاء فيها «أرواد المكان الوحيد الذي حافظ سكانه على طريقة صناعة السفن التقليدية» هو تكذيب لواقع لبناني فلسطيني. فأرواد مدينة عرفت الحضارة الفينيقية، تماماً مثل بيروت وجبيل وصور وعكا، ومعرفة سكانها بطرق صناعة السفن بالطريقة التقليدية لا تتخطى معرفة سكان صور وصيدا.
رفض إشراك لبنان في المشروع ولو عن طريق استقبال السفينة كان له رد فعل معاكس. فقد قرر فادي معلوف إطلاق مشروعه «أوروبا»، وهو سفينة فينيقية مبنية من الأخشاب بحسب التخطيط الفينيقي، والهدف من المشروع أن تجوب السفينة سواحل المتوسط وتنشر أحرف الأبجدية. تسييس التاريخ في سوريا قوبل بالمثل في لبنان، مشروع «أوروبا» يتوجه إلى اللبنانيين، ويهدف إلى تعريف العالم «بأخلاقياتهم العالية، وبأنهم شعب يحب السلام». ستبحر السفينة من بيروت عبر المتوسط إلى قبرص وتركيا واليونان وإيطاليا و... الفاتيكان. فأوروبا اللبنانية التي ستسير على «خطى الفينيقيين» وتصل إلى مستعمراتهم «ستنشر الأبجدية الفينيقية» تماماً كما فعل «الأجداد». ولم يتأخر فريق «أوروبا» في استخدام وسائل «الترفيه». فالطاقم حين يصل إلى المدن سيلبس الزي الفينيقي التقليدي، وسيكون كل واحدٍ منهم شخصية تاريخية فينيقية معروفة. فهناك قدموس مثلاً.
بين «أوروبا» و«فينيقيا» قواسم مشتركة كبرى، وأولها بيع التاريخ لأغراض شخصية وسياسية. لو أن المشروعين التحما لأغراض علمية كدراسة طرق الإبحار عند الفينيقيين والمشاكل التي تعترضه لكانا حتماً قد خدما التاريخ أكثر والسياسة أقل.