بين «حسنات» عدوان «وحّدنا ودفع إلى الخلف الكلام عن السنّي والشيعي»، كما تقول تلميذات ثانوية عمر فروخ، وعدم القدرة على نسيان الصور الفظيعة لأتراب مزّقتهم حرب إسرائيل وأبادت عوائلهم، يبدو معظم تلامذة المدارس العائدين إليها بعد عطلة رأس السنة مشتّتي الذهن، حاضرين جسدياً في الصفوف، فيما بقيت أذهانهم مسمّرة أمام الشاشات التي تدور ليل نهار مغذّية عدّاد أرقام ضحايا إسرائيل
فاتن الحاج
في إحدى زوايا ملعب ثانوية عمر فروخ الرسمية للبنات، تدور أحاديث لا تنتهي بين تلميذات الصف الثانوي الثاني عن الجرائم بحق أطفال غزة وتكرار تجربة تموز 2006، «وخصوصاً أنّ خبرية الصواريخ في الجنوب لم تكن مهضومة»، كما تقول ملاك الزغبي لزميلاتها. وتردف الفتاة أنها «ما كان إلي نفس على الدرس في العطلة، وحسّّيت إني متوترة لدرجة لم أستطع معها فتح كتاب». توافق منى إسماعيل: «الوضع يبعث على اليأس، لم يعد لدينا أمل بأي بلد عربي لكي يوقف المجازر». في العطلة، وبدلاً من التمويه عن النفس، نشطت منى ورفيقتها زينب المقداد في إعداد رسائل إلكترونية تضم صوراً تعكس همجية العدو في قتل الأطفال، وأخرى لحكام عرب يصافحون مسؤولين إسرائيليين، وقصائد لنزار قباني، وعممّتاها بواسطة «الفايسبوك» و«الإيميلات». تشرح زينب بثقة أنه «كان لازم نشارك بشي لكي يطّلع من هم في عمرنا، والموجودون في أماكن مختلفة من العالم، على المجازر التي تسعى إسرائيل للتعتيم عليها، وكيف أنه لا يجب أن نسكت عنها».
«حرام اللي عم بيصير»، ربما كانت العبارة التي تتردد على ألسنة معظم الفتيات المنهمكات في «تحليل الوضع» على قدر وعيهن السياسي. تتدخل زينة أبو ظهر لتشرح كيف أنّ «غزة وحّدتنا ضد عدو واحد، وجعلتني أنسى حرب أيار، وبطّلت فكّر سنّي وشيعي وبمصلحتي الشخصية».
هذا الغضب والتعاطف الإنساني مع أطفال غزة لم ينسحبا على ما يبدو إلى القاعات الدراسية، أو على الأقل هذا ما حصل مع نسرين سليمان، معلمة الرياضيات في الثانوية التي كانت قد أعدّت أجوبة عن أسئلة كانت تنتظر أن تطرحها تلميذاتها فور العودة إلى الصف. راحت سليمان تراقب تشتّت العيون والإرباك في الأداء، ولا سيما «أنّ كثيرات لم ينجزن فروضهن خلال العطلة»، مستغربة ما سمّته التعبير الصامت غير السليم عن الشعور تجاه العدوان. تسأل نفسها: «ماذا يحصل؟ لماذا لم تقل لي إحداهن كيف بدنا ندرس وأطفال غزة يذبحون؟ لِمَ لم أسمع تعليقاً واحداً على نحو تعليقات كنّ يمررنها حين يردن أن يعكسن مواقفهن ضمن 8 و14 آذار؟». وتستدرك: «أكيد بناتنا يملكن قدراً من الوعي الوطني والقومي، وربما السبب يعود إلى تزامن اندلاع الأحداث في غزة مع عطلة الأعياد، ما نفّس ردود الفعل الأوّلية». لكن ثمة من يفسّر الصمت ردة فعل قوية على الصدمة من هول الجريمة، وقد أصاب جزءاً لا يستهان به من التلامذة، على حد تعبير أحد المعلمين.
وإذا كانت التلميذات لم يفجّرن غضبهن أو يمارسن قمعاً ذاتياً لضيق المجال خلال الحصص العلمية، إلا ان إحدى معلمات اللغة العربية لم تخف أن التخوّف من التسييس الذي غلّف بعض المواقف، كان وراء صمت الكثيرات، من نوع أن تسمع كلاماً في المدرسة عن أنّ حركة حماس ظلمت الأطفال وورّطتهم في المعركة حين خرقت الهدنة وأشعلت الحرب. مقابل اندفاع البعض الآخر للحديث بحماسة كبيرة عن بطولات غزة. لكن المعلمة تروي أيضاً صدمتها من إقدام إحداهن على توصيف ما يجري بـ«التعدي على إسرائيل».في ثانوية جميل الرواس الرسمية للصبيان في طريق الجديدة، أصرّ شباب غاضبون على المدير للسماح لهم بحرق العلم الإسرائيلي خلال اعتصام احتجاجي ينظمونه داخل حرم الثانوية. لكنّ المدير طلب منهم الاستعاضة عن ذلك بوقفة تضامنية تتخللها آيات قرآنية عن أرواح الشهداء وإعداد لوحات تعرض فظاعة المجازر. في الثانوية ثمة من يريد بين المعلمين أن يقول للطلاب «تعوّدنا الحروب المتجددة والأوضاع الأمنية غير المستقرة، ويجب أن نتكيّف معها». وفي هذا الإطار، تعلّق إحدى المعلمات: «لا أمانع تعاطف تلامذتي الإنساني مع غزة، لكن أحاول أن أدعهم يتركون الهموم جانباً لينتبهوا إلى دروسهم». يرضي الموقف زميلتها فتعلّق: «المآسي باتت جزءاً من حياتنا اليومية، ومطلوب أن يعي التلامذة أنّ العنف مرفوض على كل الجبهات!». في المقابل، تأخذ أحداث غزة في بعض مدارس الضاحية الجنوبية الطلاب إلى أماكن أخرى من التحليل. فإلى جانب التعاطف الإنساني، يحتل الجانب العسكري حيّزاً من النقاشات. يستغل حسين مرعي ورفاقه في مدارس المصطفى الفرصة وبعض الحصص «غير المهمة» لمناقشة التطورات الميدانية وإنجازات حركة حماس. أسئلة كثيرة يحاول الشباب الإجابة عنها «ما هي الأسلحة الجديدة في حوزة المقاومة؟ ماذا تفعل حماس لتصمد في وجه الصهاينة؟ تنتظر مجموعة منهم النصر بثقة، «فتجربة المقاومة في لبنان خير شاهد»، يقول أحمد منصور. من الطلاب من يتمنى الانتصار لغزة «فقط لأنها التي تحارب العدو»، كما هي حال مريم قاسم من ثانوية الغبيري الثالثة الرسمية، التي تقول إنها لا تحب الفلسطينيين «لأنهم كانوا سبباً لحروب كثيرة في لبنان»، لكنّها تتعاطف معهم لأنّهم يقاومون في غزة. «الله يكون معهم، وانشا الله بينتصروا».