عمر خليفةفي شوارع غزة، تفتح طفلة فلسطينية معجم الذاكرة. تبحث عن معنى أن يموت محمود درويش قبل أن يروي جرحها شعراً. وَعْيُنا اعتاد على الدماء. لكنها دماء صارخة على صفحات صاغ منها درويش الأوديسة الفلسطينية. الآن يفجعنا الصمت: صمت القبور، وصمت القصور، وصمت درويش. درويش كان يمنحنا العجز عن النسيان. كان يعيد، لغةً، بناء ما أرادت العنصرية محوه، قوّةً. كان للفلسطينيين بيتان معه: بيت الأرض، وبيت القصيدة.
الفلسطينيون ماتوا قبل درويش، ومعه، وبعده. لكن الموت في حضرة درويش له معنى آخر. درويش كان يجعل من موت الفلسطيني شيئاً أكبر من مجرد فناء الجسد.
لست أقصد تمجيد الموت، فنحن نحبّ الحياة كما قال محمود. لكننا، مع الصهيونية، نختار بين الموت أو الموت. مع درويش، كان جرحنا ناطقاً بكل اللغات التي ترجم إليها شعره.
كان انتقالاً من المكان إلى المكانة، من الأنا إلى الآخر. كان محمود يَقرأنا، كما لم يَقرأنا أحد، ويُقْرئنا، كما لم نُقْرأ من قبل. كُنّا معه نموت كثيراً، بعدد المرات التي تُقْرأ فيها قصائده.
كُنّا نُجْرَح كثيراً، وكلما قرئ شعر محمود، كان جرح الفلسطيني يزداد ألقاً. الآن نحن نموت مرة واحدة فقط. ونُجْرح مرة واحدة فقط. كان علينا أن نعقد اتفاقاً مع الموت: إما أن نموت نحن أو يموت درويش. فالشِّعر لا يحتمل موت الاثنين معاً.
الفلسطينيون اعتادوا أن يكونوا وحدهم، وكان شعر درويش يخلق من تلك الوحدة إنسانية بأكملها. غزّة الآن وحيدة، لكن بلا درويش. غزة تبحث عن ذاتها بين الأنقاض.
غزة تقرأ عن غزة في قصيدة درويش التي لم تُكتب. لكن الموت، كالحياة، كتابة أخرى. وموت درويش هو كتابة الصمت. هو غياب الحقيقة شعراً، كما غابت سياسة وإعلاماً. لنفتّش في الأوراق التي تركها درويش. في سريره. في رائحة المكان بعده.
فلعله ترك بعضاً من صوته معلقاً بين السماء والسماء، صوتٍ نهديه إلى غزة في الأرض... إلى غزة فينا... إلى غزة في غزة.