زياد منى*لا أدري ما يدور في ذهنك وأنت تسمع أخبار مجازر العدو الصهيوني في غزة المحاصرة. أقول: «وأنت تسمع» لأنني واثق بأنك لا تحب النظر في صور «غير حضارية»... صور مزق وأشلاء أطفال ونساء ورجال، أجساد مبعثرة الأعضاء وبطون مبقورة وبقايا أدمغة متناثرة على وجوه محطّمة، لا تناسب إطلاقاً أناقتك.
أناقتك تلك يقال إنها استعارتك الوحيدة من تجربة الثورة البلشفيّة، لأنّ الشيء الوحيد الذي أحببته فيها حرص قائدها لينين على ارتداء بذلة من ثلاث قطع. هذا كل ما أخذته، أنت ورفاقك، من تلك الثورة، وإن اعترفت بأنّهم ليسوا بحرصك على أناقتهم، مع أن مندوب البنك الدولي نفسه، البليد، يحاول منافستك في ذلك المجال، وهو الوحيد الذي تتقنه.
ولينين هذا، لا شك في أنك سمعت به، لأنه قيل إنك حصلت على شهادة دكتوراه من جامعة عاصمة دولته التي أسسها، وإن من جامعة لومومبا التي تحمل اسم مناضل أفريقي عظيم قضى عليه أصدقاؤك القدامى ــ الجدد.
كوادر حركة فتح وعناصرها، جميعهم، من دون استثناء، كانوا يتندّرون على «إنجازك الأكاديمي»، وكنت مادة السخرية المفضلة لدى المقاتلين على جبهات المواجهة مع العدو. ألا تصدّق؟ بلى، أنت تعلم ذلك، وإن رغبت، أذكر لك أسماء بعضهم، بصيغة ثلاثية حتى، لأن منهم من صار «سفيراً» و«وزيراً» وعضواً في مجالسكم ومؤسّساتكم المهلهلة البائسة. بل إنّهم كانوا يقولون: إن أحد همل ألمانيا «الغربية» هو من كتبها لك.
كذلك يقال إن موضوع تلك «الرسالة» المجيدة كان التعاون النازي ــ الصهيوني... سبحان من لا يتغير، فقد صار لك بين الصهاينة أصدقاء.
وهناك كثر من قال أكثر من هذا! قالوا: لو أن تلك الجامعة، التي كانت متخصصة في تلميع «همل العالم الثالث»، قدمتها لأي شخص يحترم العلم والعلماء لعدها إهانة، لأنها لا تساوي شهادة دورة مسح
أمية.
وأيضاً أتعرف ما كان يتندّر به أولئك «السفراء» و«الوزراء» وقادة الأجهزة المهلهلة المتخصّصون في ملاحقة المناضلين وتعذيبهم حتى الموت والتخلص من جثامينهم الطاهرة، والمبدعون فقط في قمع تظاهرات شوارع رام الله ونابلس والخليل... المستنكرة للمذبحة الصهيونية الجديدة، الذين استبدلوا النضال ضد العدو الصهيوني بدورات تدريب عند وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من مؤسسات القتل والتآمر؟! كانوا يقولون إنك رئيس الفرع الفلسطيني من المنظمة الصهيونية العالمية، وقيل أيضاً إنك كنت تبادر بالرد: لا، أنا قائد خط الخيانة الوطنية في فتح. لكن هذا كله لا يهمني، لأن الأساس هو أفعالك، وليتنا ما رأيناها ولا عشناها.
بل هناك من يقول إنك، ومعك زملاؤك، كنتم تنتظرون وفاة قائدكم وولي نعمتكم، الراحل ياسر عرفات، المحتجز في مبنى المقاطعة، كي تنقضّوا على موقعه، بدلاً من إبلاغ مفاوضيكم أنكم ستعلنون حل «السلطة» المهلهلة والتافهة أصلاً والاستقالة فوراً، في حال عدم الإفراج عنه والالتزام بمستحقات الاتفاقيات الموقعة، على هزالها وتواضعها، لا بل وضاعتها.
لا بأس، أعرف، كما تعرف أنت، أن لك أعداءً كثراً بين شعبنا وفي صفوف أمتنا العربية التي يتظاهر أبناؤها بالملايين في هذه الأيام لغزة وأهلها الذين خذلتهم ومنعت عنهم حتى التضامن اللفظي، أعداء أكثر من رمال شواطئ غزة المدماة، ونجوم فلسطين الغارقة في هواء رصاصي، يكرهونك لأسباب شتى، ولكني لستُ منهم. ولذلك فإنني لن أكيل لك التهم.
هل تعرف ما «التهمة» التي يكيلونها لك؟ يقولون: إنك يهودي. للعلم فإنني أشجب هذه «التهمة»، وأكثر من ذلك أقول: إن «اليهودية» ليست تهمة إطلاقاً. لذا فإنني اعترض بقوة على كلام كهذا، لأنّ ثمة يهوداً كثراً أشرف من كثير من المسلمين وقادتهم العرب وغير العرب، وخصوصاً في هذه الأيام، وإليك بعض الأمثلة المجانية التي يمكنك استخدامها لمقارعة الادِّعاء الواهي بالحجة البينة. صغار أمّتنا، الذين تخصصوا عبر التاريخ بالاستسلام والتآمر، كانوا كلهم مسلمين، من والي حلب المملوكي الذي حارب هو وقطعانه إلى جانب الصليبيين ضد أمته، إلى «القرشيين» سادة التآمر على فلسطين والعرب، إلى التكفيريين الذين أبادوا أكثر من ثلاثة أرباع شعب جزيرة العرب المسالم المسلم الورع والتقي، باسم إسلامهم. وإذا رغبت، أعطيك أمثلة أخرى، مجانية بالطبع، تمكنك القول: إن تهمة الخيانة من منطلق انتماء ديني غير صالحة إطلاقاً، بل باطلة من الأساس.
سأكون أكثر وضوحاً معك: إنني لا أقول إطلاقاً إنك خائن ومتآمر ومتواطئ... إلخ، ولا أكترث برأي اللغويين الذين يصرون على أن هذه المفردات ابتدعت أصلاً وتحديداً كي تستعمل في حالات وأوضاع وتصرفات مثل التي تقوم بها أنت وزملاؤك ورفاقك وأتباعك. من يطلق عليك تلك النعوت لا يربطها فقط بمواقفك السياسة منذ أن أطلقتَ أنت شعار «فاتتنا الطيارة ــ طائرة السادات»، بل يصف مواقفك، أنت وزملائك، المتفرجة على مجازر العدو في غزة، وتصريحاتكم البليدة الداعية للمزيد من الاستسلام بدلاً من شحذ الهمم للنضال والاستعداد للمعارك القادمة لا محالة.
بصراحة، لا أحب استعمال تلك المفردات لأنها أخلاقية المنشأ، وفي السياسة وجب توظيف مصطلحات سياسية، لا غيرها.
الآن لا تظن أبداً أنني من حماس، وفي ظني أنك تكره هذه المفردة كراهيتك للثورة والثوار، بل إن مداهنيك يدعون أنك منعتها من قاموس الاستعمال اليومي، حتى لو كانت لوصف كيفية تعاملك مع مشاريع الاستسلام المطروحة على شعبنا بهدف تصفيته هو وقضيته، أو لوصف مداهنيك المطبّلين لتصريحاتك ومواقفك من عربان النفط المدنِّس. ولذلك فإني أقول: اطمّن، فأنا لا أتفق أبداً مع طروحاتها الاجتماعية والسياسية العسكرية، خصوصاً بعدما اختارت طريق المهادنة وأخذت بمشروع الدولتين بدلاً من التمسك بمشروع حق العودة ضمن دولة فلسطينية ديموقراطية.
في الحقيقة أنا أذهب أبعد من هذا وأقول بصريح العبارة: إنني لا اتفق مع أي طرح ديني مذهبي، مهما كان مصدره، لأنه يقسم ولا يجمع.
لذا اطمن مرة أخرى من هذه الناحية.
الآن سيصرخ أصحاب «أقلام للإيجار»، مستنكرين، وسوف يتابعون رسم أسفار بعد أسفار كي ترتفع مكافآتهم من أموال البترودولار الإفسادية، عن ضرورة ضم الصفوف والتمسك بالوحدة الوطنية، فقط بهدف تلميع صوركم الرثة المهلهلة. لذلك، اطمّن، للمرة الثالثة أو الرابعة، فأنا مع الوحدة الوطنية ولا أدعو إطلاقًا لاستبدال حماس بفتح. لكنني مؤمن بوحدة وطنية حقيقية، وحدة الشعب وقواه وشخصياته الوطنية المناضلة في مواجهة العدو، لا رفع شعار خالي المضمون يستعمل ستاراً تضليلياً لحجب مواقفكم المخزية المتفرجة على شعبنا يذبح. ولأني مؤمن بوحدة وطنية ضد المغتصب، فإنني أقف إلى جانب محاربيها الشجعان في هذه المعركة مع العدو الأميركي ـــــ الصهيوني، وأحيّي مقاتليها الأبطال الذين يسطّرون أسمى معاني الشرف والتضحية في شوارع القطاع وحاراته وبيوته، وعلى استعداد كل غالٍ كي يحققوا النصر المبين.
الآن، بعدما لم أبخل عليك بإخبارك ما تعرف، ولكن ربما بما لا تود أن تعلمه، من حقي أن أوجه لك سؤالاً بعد سؤال: بعد مرور 35 عاماً على تبنيكم برنامج التخلي عن حقوق شعبنا في وطنه، وعشرين عاماً على اتفاقياتكم المشؤومة، مقابل وعود بوعود بوعود بوعود بوعود بوعود... ما الذي أنتجته تلك السياسة العقيمة الضيقة الأفق غير الهزائم والنكبات والمجازر على شعبنا، وبطاقات «VIP» لكم؟
للتذكير، عندما انطلقت فتح في عام 1965، كان هدفها تحرير القسم المحتل من وطننا، لأن «الضفة» و«القطاع» لم يكونا وقتها قد سقطا تحت نعال العدو الصهيوني، ولكن ها أنتم تريدون العودة بنا إلى وضع أسوأ مما كنا عليه قبل ابتلاء شعبنا بكم، عبر برنامج تضليلي مشؤوم «أتذكر مقولة: إقامة السلطة الوطنية المقاتلة و«النفاثة»؟ على أي جزء يتم تحريره [كذا]» الذي لم يجلب سوى الويلات على شعبنا وعلى أصدقائنا في كل مكان، ولبنان العزيز في المقدمة، وكلفنا عشرات الآلاف من الشهداء ومئات الآلاف من الجرحى والمعوّقين وخسائر مادية لا حد لها، ولا يمكن تعويضها.
لذا، يحق لنا مساءلتك، أنت وزملائك، ومحاسبتكم جميعاً، الآن، وقول: كفى! كفى ما ألحقتموه بشعبنا من دمار. سياستكم القاصرة والغبية تلك لم تجلب علينا غير الهزائم والمذابح والكوارث العامة، الواحدة تلو الأخرى.
شعبنا في فلسطين المحتلة أدار الظهر لكم، جميعاً، في تلك الانتخابات اليتيمة، وجردكم من أي تفويض للتحدث باسمه، بعدما كان قد منحه تحت ضغوط عاطفية لا أكثر، لذا فليس من حقكم البقاء متحكمين في رقاب شعبنا وقضيتنا ومقدراتهما.
أنت وزملاؤك تعلمون، كما نعلم جميعنا، يقيناً، بأنه ما بإمكانكم البقاء لحظة واحدة في كراسيكم القصبية المهلهلة لولا رضا العدو عنكم.
ولأن كل مواقفك أنت وزملائك، وخصوصاً في هذه الأيام العصيبة، عار على شعبنا المناضل، وطعنة في ظهر كل مناضل، فقد حان وقت رحيلكم، جميعاً، وترك شعبنا يلملم جراحه وأشلاء شهدائه ليستعد لخوض معارك المستقبل حتى تحرير فلسطين.
ولأنكم راحلون، جميعكم، رضيتم بذلك أو أبيتم، فلتعلموا أنكم لم تحققوا أنتم وأتباعكم من شيء، باستثناء ما يقال عن تضخم حساباتكم المصرفية السرية منها والعلنية، سوى أنكم حجزتم لأنفسكم مكاناً قيادياً لا ينازعكم فيه أحد في تلك القائمة غير المشرفة التي أعلنتها فتح، قبل أن تحرفوها عن مسارها النضالي وتدجنوا مناضليها وتحولوها بأموال العبران النجسة إلى مؤسسة مساومة مفرغة من أي مضمون كفاحي.
القائمة غير المشرفة تلك، كما تعلم، أنت وزملاؤك، كانت تتحدث بصريح العبارة وبلغة لا إبهام فيها، عن المتآمرين على قضيتنا، من بطل مجازر أيلول وأحراج جرش وعجلون ونظامه، إلى أنظمة «الرجعية العربية»، و«روابط القرى»، وغيرها.
وقتها كانت فتح تلحق بأسمائهم أقبح النعوت. هم جميعهم لم يتغيروا. أنت وزملاؤك من تغير.
للعلم، أخاطبك، أنت وزملاءك، باسم الدم الفلسطيني المراق في شوارع عمّان وإربد والزرقاء وأحراج جرش وعجلون وغزة والقدس والخليل وأم الفحم والناصرة واللد والرملة ويافا وحيفا والجليل، وفي كل شبر من وطننا المحتل، من رأس الناقورة إلى تل الرشراش، وفي لبنان. إن صراخ الجرحى من أطفال وكبار شعبنا سيصمّ آذانكم حيثما وجدتم، ولن يسمح لكم بالنوم إلى يوم الدين، وأرواح أبنائنا ستلاحقكم جميعاً ومعها اللعنات الإلهية والأرضية الآتية من مختلف بقاع الأرض، ولن تترككم ترتاحون لحظة واحدة، وستجدون أنفسكم منبوذين، تماماً مثل من سبقكم في الصراط غير المستقيم الذي اخترتموه طوعاً لا إكراهًا ولا بطيخ!
كفى، ارحلوا عنا، أيها الصغار بين صغار. يكفينا ما ارتكبتم بحقنا من حماقات ومآسٍ، ولا تنسوا أن من عيّنكم، سيلقي بكم جميعاً، وقد شارفت صلاحيتكم على الانتهاء، في المكان إياه، تماماً كما فعل من سبقكم الذين رضي بهم عسساً على شعبنا لملاحقة المناضلين والثوار، فانظروا إلى فلول جيش لحد وبقايا روابط القرى، وانظروا أيضاً إلى الشاه وماركوس وموبوتو وإيان سميث، وكثير غيرهم، وحلّوا عن ظهرنا قبل فوات الأوان.
أنا كتبت وصيتي، ولكن ماذا فاعل أنت وزملاؤك؟!

* كاتب فلسطيني