سعد الله مزرعانيمثّل هذا التشوه أحد أبرز نجاحات الخطة الأميركية في المنطقة، تلك الخطة التي حملت اسم «الشرق الأوسط الجديد أو الواسع». وكان قادة الولايات المتحدة من «المحافظين الجدد»، قد بكروا في إعداد العدة لإقامة بنية سياسية طائفية ومذهبية، في البلد الذي غزوه، وهو العراق، كأساس لتأجيج صراع في المنطقة، وبين مكوناتها دولاً وشعوباً ومجموعات دينية وإثنية، يكون بديلاً للصراع مع المحتل الغاصب والطامع، وبالتأكيد أيضاً، مع أتباع هؤلاء من السلاطين والمتسلطين والمستبدين والخدم والحشم. وبموجب هذا المشهد الصراعي الجديد أصبح المقاوم والمعترض والمحتج إرهابياً تجب مطاردته في كل أرض، وتجب معاقبة داعميه، بكل الوسائل.
وللأسف أن بعض قوى التغيير والثورة قد وقع في وهم ما نشر من مزاعم عن أن جزءاً موضوعياً في المشروع الأميركي سيؤدي بالضرورة إلى ضرب بنية الاستبداد التقليدي أو الحديث في منطقتنا، وأن واشنطن إنما تدير، من حيث تدري أو لا تدري، مشروعاً لنشر الديموقراطية وللدفاع عن حقوق الإنسان.
جرت إذن، في سياق تنفيذ الغزو الأميركي للعراق، محاولة ذات شقين. الشق الأول: إلغاء الصراع مع العدو الصهيوني بوصفه غاصباً ومثابراً على مطاردة الشعب الفلسطيني، ورفض الاعتراف بالحد الأدنى من حقوقه. والشق الثاني افتعال شكل جديد للصراع تتحول بموجبه شعوب المنطقة إلى مجموعات منقسمة، متنافرة ومتقاتلة، على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي أو إثني، أو هذه جميعاً في وقت واحد. لا شك أن القضية الفلسطينية كانت الضحية الأساسية لهذا النهج الأميركي الذي اجتاح المنطقة بقوة الحديد والنار، ابتداءً من غزو العراق واحتلاله عام 2003، وحتى نهاية إدارة الرئيس جورج بوش، في العشرين من الشهر الجاري. والغريب في الأمر، أن بعض ضحايا هذا النهج من المسؤولين الفلسطينيين، كانوا هم الأكثر وقوعاً في الشرك الأميركي المفضوح! فمن المعروف أن واشنطن قد أوقفت في عهد الرئيس الأميركي الحالي كل اتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية. وهي أطلقت يد رئيس وزراء إسرائيل في أخطر الأعمال الإجرامية، بهدف تصفية كل البنى السياسية والعسكرية والأمنية التي أقامها الشعب الفلسطيني، وخصوصاً بعد «اتفاق أوسلو» في مطلع التسعينات. ونتذكر جميعاً، ما تعرض له رئيس السلطة الفسلطينية آنذاك ياسر عرفات من حصار، ومن دمار لاحقه من غرفة إلى غرفة في «المقاطعة» بهدف إخضاعه وفرض الاستسلام عليه. وهو إذ صمد مردداً أنه يفضل أن يقضي: «شهيداً، شهيداً...»، تمكن الصهاينة من تدبير أمر تسميمه، وبالتالي من اغتياله محاصراً وشبه متروك من جانب أصدقائه وأشقائه على حد سواء.
وكانت قد ترافقت حملة التصفية هذه مع تجميد لكل أشكال المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية. واستمرّ هذا الأمر لمدّة سبع سنوات متواصلة، إلى أن حُشر بوش الابن في الزاوية، فاضطر إلى استئناف مفاوضات شكلية، تبين لاحقاً (في أنابوليس) أن هدفها فقط إعلان واشنطن تأييد يهودية دولة إسرائيل، ومن أجل فرض الاعتراف بها من جانب أولئك الذين شاركوا في المؤتمر إذا أمكن.
الأخطر في كل ذلك هو نجاح واشنطن في إقامة حلف لأولئك الذين، عن طريق الانحراف أو الخطأ، ساروا في ركاب مشروعها، متوهمين بها قدرة غير قابلة للتحدي على فعل ما تريد وإقصاء من تريد وتدمير أعدائها وخصومها وحتى بعض حلفائها المتشككين! وفي مجرى بلورة «حلف الاعتدال» الذي سرعان ما أعقب الضغوط الأميركية على النظامين السعودي والمصري (لابتزازهما في مسألة الديموقراطية ولدفعهما نحو انخراط نشيط في الخطة الأميركية)، تمت جرجرة ممثلي السلطة الفلسطينية إلى مفاوضات، لم تؤدِّ في الواقع إلا إلى جعل العالم يتساءل: ماذا يفعل الفلسطينيون غير تبادل العناق مع «الشقيق» الإسرائيلي الجديد!! ومن بين الأثمان التي كانت مطلوبة من المفاوض الفلسطيني، إضافةً إلى المشاركة في مفاوضات عبثية كلها غدر ومناورات، التضحية أيضاً بالحد البسيط والهش الذي كان ما زال قائماً من الوحدة الفلسطينية، الرسمية والشعبية.
كان هذا هو الواقع الذي استمر في الترسخ حتى تموز 2006. في ذلك التاريخ قررت واشنطن، واستناداً إلى ما أقامته من علاقات وتحالفات، وما راكمته من انقسامات في الجسد العربي والفلسطيني، الرد في لبنان على ما واجهته من مقاومة في العراق جعلت جيشها يدفع أثماناً باهظة وجعلت خطتها تتعثر وتغرق تباعاً في الرمال الصحراوية العراقية. وحصل الرد الأميركي بصيغة عدوان إسرائيلي حمل أيضاً، بشكل واضح، بصمات حلفاء واشنطن في «محور الاعتدال» الذي أقامه بوش. ورغم المقاومة ذات المحتوى النوعي التي واجهت العدوان الصهيوني ـــ الأميركي ومنعته ببطولة وببسالة مدهشة من تحقيق أي هدف من أهدافه (اللهم إلا الدمار والقتل المجرمين)، فإن جزءاً كبيراً من إنجازات الصمود والمقاومة في لبنان جرى امتصاصه أو تبديده في أتون الصراع المذهبي الذي كانت واشنطن وحلفاؤها قد نجحا في تعزيزه إلى الحد الأقصى.
غير أن الصمود المقاوم في لبنان قد أثمر الكثير تدريجياً، في ضمير الشعب الفلسطيني وفي عزائم مقاوميه. وفي مجرى مخاض صعب، سارت غزة إلى مقدمة الصفوف في الاعتراض وفي التمسك بالمقاومة... فكاد العدوان الحالي، وعلى أبشع صورة من القتل والتدمير والتنكيل والإبادة والتواطؤ والتخاذل.
يجري الحديث عن صمود غزة المدهش والأسطوري. هذا صحيح مهما تكن النتائج في أقبية المفاوضات والمتفاوضين المتأبط معظمهم الشر والسوء بالشعب الفلسطيني عموماً وبشعب غزة خصوصاً. لكن الأهم سيبقى في أن غزة قد دحضت النظريات الأميركية في إسقاط القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني من خارطة الصراع. ومرة جديدة ينبض قلب مئات ألوف المدنيين في العالم العربي وكل العالم، مع أطفال فلسطين ومع مقاوميها ومع صمودهما البطولي في وجه آلة الموت الاسرائيلية ــ الأميركية. وبديهي أنه في خضم هذه الملحمة المستمرة للأسبوع الثالث على التوالي، سقط جزء كبير من حاجز الكراهية والانقسام الذي جهد الأميركيون لإقامته بين الفلسطينيين أنفسهم، وبين «السنّة» و«الشيعة» وبين الحقائق والحقوق من جهة، والمزاعم والأوهام من جهة ثانية.
يتمنى الآن نازي ــ صهيوني جديد أن تستخدم تل أبيب السلاح النووي لإبادة غزة وشعبها، على غرار ما فعلته الإدارة الأميركية في الاستخدام المجرم وغير المبرّر للقنبلة الذرية ضد كل من «هيروشيما» و«ناكازاكي» في اليابان عام 1945! إنّه ليس مجرّد حلم من جانب فاشي صغير. إنّه ثمرة مشروع صهيوني بات أخطر اليوم، بعدما أصبح مشروعاً أميركيّاً متكاملاً يشارك فيه أيضاً «عرب الاعتدال» ممّن بلغ بهم التواطؤ حدّ الشراكة في الجريمة لا مجرّد السكوت عن ارتكابها!
لكن حلم ليبرمان في إبادة شعب فلسطين لن يكون أكثر من نوايا شريرة، لن تلبث أن تسقط وبأبشع صورة ومصير أمام براءة أطفال غزة وبطولات شعبها وهم يجسّدون حلم بلوغ عالم أكثر عدالة ومشروعية... وهو عالم ممكن فقط بفضل المقاومة وفي نطاق مشاريع التغيير الشامل: مشاريع الحرية والسلام والكرامة وحقوق الأطفال!

* كاتب وسياسي لبناني