strong>معمر عطوي *ليس جديداً على الوسط الإسلامي ما أعلنه المفتي العام للسعودية، رئيس هيئة كبار العلماء، عبدالعزيز آل الشيخ، من أن التظاهرات التي انطلقت في العديد من الدول العربية والإسلامية لنصرة الفلسطينيين في قطاع غزة، هي «أعمال غوغائية وضوضاء لا خير منها». بل هو كلام في سياق العديد من الفتاوى التي تنتشر في بلاطات السلاطين وأروقة الحكّام.
ليس هناك ما هو أدلّ على ذلك، أكثر من فتاوى «الديار» المصرية، التي تذرّعت بمفهوم «عدم إلقاء النفس في التهلكة»، من خلال الخضوع لقرارات القيادة السياسية «الحكيمة»، التي من شأنها تجنيب الدولة التصدّع والانهيار.
من هنا، كان التركيز على الآية القرآنية «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله إنه هو السميع» (الأنفال ـــــ 61). بيد أن هؤلاء الفقهاء تغاضوا عن عشرات الآيات التي تحث على الجهاد والدفاع عن الكرامة والمال والنفس والدين والأمة، و«جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم» (التوبة ـــــ41).
ثنائية واضحة بين الفقيه والسياسي، برز عريّها عند اتفاق كامب دايفيد المشؤوم بين مصر والدولة العبرية، حين انبرى الفقيه ليضفي المشروعية على خيانة الحاكم، بينما أطلق الحاكم يد الفقيه في المجتمع من خلال «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ليفتي هذا الفقيه بقتل كاتب أو سجن فنان، أو ليحاسب الناس على مسائل تتعلق بحريّاتهم الشخصيّة تحت شعار معمول به في معظم الدول العربية والإسلامية، إن «مصدر التشريع هو الإسلام».
مفارقة مذهلة، تبيّن مدى عقم العلاقة بين طرفي المعادلة القائمة، حيث يصبح رجل الدين في خدمة السلطان، متذرعاً بالآية «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» (النساء ـــــ 59).
على المنوال نفسه، أتت الوهابية في السعودية، لتخلق ثنائية جديدة بين العائلة الحاكمة سياسياً، والجماعة المسيطرة اجتماعياً. وأسست نمطاً جديداً من التشريع يدّعي التمسّك بالقرآن والسنة النبوية ونبذ «البدع». بل انتشر هذا النمط بصور مشابهة في دول المنظومة الخليجية، آخذاً في الاعتبار البُعد القبائلي والتقاليد الاجتماعية، على أساس أنه العرف السائد. والعرف في نظر معظم الفقهاء، مصدر من مصادرالتشريع.
من هنا، لم يعد غريباً أن نسمع فتاوى، تحت حجج «درء الفتنة»، منسجمة تماماً مع تعليمات «وليّ النعمة»؛ وظيفة الفقيه هنا البحث عن مسوّغ شرعي، بغض النظر عما إذا كان المسوّغ منسوخ بمسوّغ شرعي آخر، أو إذا كانت الظروف الزمانية لإطلاق الحكم، مغايرة للظروف الحالية، وخصوصاً أن القرآن «حمّال أوجه».
ربما كان آل الشيخ، الذي تربطه صلة قرابة مع آل سعود، محرجاً في البداية من إطلاق فتوى تناقض رأي الشارع ونبض الناس. لكنه أطلق «بالون اختبار»، حين أوعز قبل أسبوع من إطلاق فتواه، إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ صالح اللحيدان، أن يصف التظاهرات بأنها «استنكار غوغائي». بالون اختبار رصد من خلاله ردة فعل الشارع السعودي (لكون الشارع العربي خارج اهتماماته، كما هي غزة خارج اهتمامات شيخ الأزهر المصري محمد سيد
طنطاوي).
وعندما وجد مفتي آل سعود، أن هذا الشارع يمكن تنفيس غضبه بإطلاق حملات التبرعات المالية والعينية، تجرأ على فتواه الشهيرة التي قصمت ظهر بعير المؤسسة الدينية السنيّة. كما حدث مع رديفتها الشيعية في العراق منذ غزو بلاد الرافدين، حين سوّغت الاستعانة بـ«الشيطان الأكبر» من أجل إنهاء حكم البعث الظالم.
ولم تكن فتوى آل الشيخ التي أطلقها حديثاً، أكثر غرابة من تحريمه فتح معبر رفح أمام أهل غزة المحاصرين بحجة الحفاظ على وحدة الدولة المصرية وأمنها، مشيراً إلى أن حاكم مصر هو من ينظر في مصلحة فتح المعبر أو عدمه (مقابلة على قناة سعودية الأسبوع الماضي). ولم يقف الشيخ عند هذا الحد، بل أطلق فتوى أخرى أدهشت مقدّم البرنامج نفسه، حين قال: «يحق للمسلم أن يودع أمواله في أي مكان يراه آمناً، حتى لو كان في أميركا». وحين لفت المقدّم إلى أن أميركا «بلاد الأعداء»، أجاب: «وإن يكن»، من دون أن يتذكّر الأزمة المالية التي وقعت فيها هذه البلاد أخيراً. ويقول آل الشيخ في هذه المقابلة المتلفزة والمباشرة التي أُتيح لكاتب هذه السطور بالصدفة، متابعة جزء منها: «نحن لا نستطيع أن نجبر أصحاب الأموال على مساعدة الفقراء في أفريقيا، هم أحرار بأموالهم أين يودعونها».
وليس من المناسب في هذه العجالة، التطرق إلى الفتاوى التي تتحدث عن جواز الزواج من البنات الأطفال.
لعلّ ما كان يؤخذ على المؤسسة السنية الرسمية من ارتهان للسلطة السياسية بسبب تبعيتها الإدارية والمالية للحكومة في هذا البلد أو ذاك، قد انسحب أيضاً على المؤسسة الشيعية التي لم تكن يوماً رسمية إلّا في ايران، وفي لبنان، حيث يتبع رئيس المجلس الشيعي لرئاسة البرلمان.
فالسقوط الذي تعيشه المؤسسة الدينية يبدو متشابهاً، حيث يتكرر مشهد عناق بين السيد عبد العزيز الحكيم وممثل الاحتلال في العراق بول بريمر، مع مصافحة تمت بين الشيخ طنطاوي ورئيس كيان العدو، شيمون بيريز، في نيويورك منذ شهرين.
كان هناك مقولة تشير الى تحرّر فقهاء الشيعة أكثر من فقهاء السنة، «الرسميين»، من حيث «صياغة» الفتوى. وفي هذه المقولة مغالطة، حيث يتبيّن أن ارتهان بعض فقهاء الشيعة لم يكن للسلطة السياسية، بل للمجتمع (وما فيه من تخلّف وجهل). المجتمع الذي يدفع أموال الخمس لعلماء الدين، بغية توزيعه أسهماً على المحتاجين، ومنها الثلث لإمام الزمان المهدي المنتظر، والثلث الآخر للسادة (أي العلماء من أهل بيت النبي). بذلك، يكون المال والسلطة توأمين في جرّ الدين إلى حظيرتهما، وتطويع الفتوى لما يلائم مصلحة الحاكم أو صاحب المال؛ قد تكون إيران هنا الاستثناء الوحيد، حيث يتبع السياسي للفقيه بدلاً من تبعية الفقيه للسياسي.
في أي حال، تبرز إشكالية الوهابيّة وغيرها من المؤسسات الدينية، في الذرائعية، التي تلجأ إلى النص الديني بغية شرعنة فتاواها، ولا سيما القاعدة الشرعية التي تقول إن أهم مقاصد الشريعة تتمحور حول جلب المصالح ودرء المفاسد. وفي نظر وعاظ السلاطين هؤلاء، أنّ المصالح تتجسد بحفظ الدولة والسلطة، حتى لو كانت جائرة. هنا تتجلى «الأحكام السلطانية» لأبي الحسن الماوردي، الذي كان يرى أن مشروع الإسلام هو مشروع الدولة، وأن الدولة جزء من مشروع الإسلام. مفضّلاً مسألة الحفاظ على الدولة حتى ولو كان رأسها «فاسقاً» أو «فاجراً» على العمل وفق النهج الإسلامي في إغاثة الملهوف والمظلوم ومقاومة المعتدي والظالم.
وفي هذا الموضوع، قصر نظر واضح، حيث يسعى الفقيه لإرضاء السياسي، من أجل مصالح مادية وآنية ضيقة، فيما يفترض بالفقيه أن يكون صاحب استراتيجية طويلة المدى، لا تتعلق بالحفاظ على مكتسبات موجودة على حساب مشروع نهضوي تحرري طويل، ولو تطلّب العديد من الضحايا والخسائر.
بهذا المعنى، تحتاج المؤسسة الدينية إلى فقهاء مناضلين، أمثال عز الدين القسام وعباس الموسوي وأحمد ياسين، ومحمد باقر الصدر. فقهاء يتحدثون بنبض الناس، يقاومون الظلم بعيداً عن تذمّر الحاكم أو دافع الأموال الشرعية. لأن معركة الحفاظ على الكرامة لا تنظر إلى معادلة الربح والخسارة إلا بحدود مصلحة المقاومة نفسها والظروف المحيطة بها والوضع الميداني المُتاح لفعل المقاومة. وما عدا ذلك هو فتاوى من شأنها تعزيز سلطة الظلم على حساب العدل، وتسويغ الخيانة لتصبح «اجتهاداً»، إن أخطأ صاحبه فله أجر واحد، ولتذهب الضحية إلى الجحيم.
على كل حال، غزة اليوم لا تحتاج إلى فتوى كي تدافع عن نفسها. رجالها أسمى من فتاوى هؤلاء الأقزام الذين يلتحفون عباءات «القداسة».
* من أسرة الأخبار