أنسي الحاجيتداخل الشخصي بالموضوعي في استحضار منصور الرحباني. ربطتنا صداقة مختلفة عن تلك التي قامت بيني وبين عاصي الرحباني، حيث كان ظِلُّ فيروز الطاغي يجلس بحضور أكبر ممّا يكون مع منصور. ولا يتقلّص ظلّها إذ تحضر بشخصها في الجلسة أو السهرة أو العشاء، بل تكون مرّتين: مرّة أسطورةُ امرأةٍ ومرّة امرأة الأسطورة. مع منصور، المسافةُ أكبر. العلاقة تكتنفها تيّاراتُ هواء مريحة فضفاضة، لا تُشنّجها أبوابٌ يجب أن تظلَّ مغلقة.
يتداخلُ الشخصي بالموضوعي والفرح بالحزن والصفاء بالحَذَر. ينتمي منصور إلى سلالة شعراء الليل. صباحاته نَدَى أحلامه. شعره رقيق ومتوتّر، رقراق وأدقّ تعبيراً من المجهر. لولا التأثّر بنزعةِ القوّة السعيد عقليّة لجرى مجراه العاطفي أكثر فأكثر صوب مناخاتٍ أقرب إلى الأخطل الصغير، على لؤلؤيّة سعيد عقل التعبيريّة.
«يَقطفها قطفاً». ينتزع الصورةَ من فضائها حيثما اختبأت، فإذا المعنى الغائم ظهور يأسر، والفكرةُ الضائعة لُقيا، والنَغَم الشارد عِنَبٌ في الفم. له هذه النعمة: صَيْد الكوامن، أزاهرُ العقل الباطن.
ينتهي الموسيقي في منصور الرحباني حيث يبدأ الشاعر ولا ينتهي الشاعر. يستمرّ حتّى في خضمّ السخرية، في مطاوي الظنون وأعماق البراري. إنه بضعةُ شعراء: واحدٌ للعشق، واحدٌ للأرض، واحدٌ للدهشة، واحدٌ للشكّ والممرّات المعتمة، وآخر أشبه بالمَطْهر. وليس هذا في شعر مكتوب أو حوار فكاهي أو مشهد مسرحي فحسب، بل في شخصه، بحذافيره. وذلك الشقّ الآخر من اتحاد ملتبس ومحيّر، كان تارةً طفلاً محنّكاً وطوراً خبيراً هاوياً، يرتعب ويراقب ويضبط ويتشيطن كالأطفال، ويختبئ كالأطفال، ويَثِبُ فجأةً كالأطفال فتظنّهم غَيْرهم.
يتداخل الشخصي بالموضوعي وكلٌّ منهما يحاول قمع الآخر. طفل؟ هذا شعرُه. في الباقي مجموعةٌ مؤتلفة من الرهافة والتحدّي، من العشق المجنّح والهزء اللاذع، من الهشاشة الرابطة الجأش ومراودة البطولة. لم نكتب عن الأخوين رحباني سوى الحماسات. وللحقّ، لم يرضهما ذلك إلّا لماماً. كانا دائمي الشوق إلى نقدٍ يُنصفهما ويعينهما على التطوّر. ولا يزال نتاجهما يَنتظر مَن يتوغّل فيه سواء على نَمَط المقارنة أو تقييمه بحدّ ذاته، في معزل، قَدْر الإمكان، لا عن تأثيرهما الشخصي فحسب بل عن الأدبيّات الوطنيّة التي تُلوّث الرؤية.

الإنشائيات التي انهالت على القرّاء وعلى منصور الرحباني فور وفاته هي من أردأ ما مُني به الوسط الأدبي والصحافي في دنيا العرب. وأردأ ما في الأردأ هو اعتماد الأكثريّة الساحقة (الساحقة للأعصاب والعيون والعظام) في رثائياتها على عناوين المسرحيّات الرحبانية وأخصّها أخيرة منصور وأولاده «عودة الفينيق». في السابق لُقّب منصور بـ«سقراط لبنان» لأنه كتب مسرحيّة «آخر أيام سقراط». وبعدها تحوّل إلى «الفينيق» الذي عاد إلى شقيقه. وقبلهما كان العملاق نظراً إلى طول قامته. ما علاقة هذا بنتاجه؟
آرمات وبطاقات سياحيّة. ثقافة شفهيّة. مثل «جارة القمر» و«مطربة الجبل» و«سفيرة لبنان إلى النجوم» و«ملائكيّة الصوت» وغيرها لفيروز. أمّا عاصي فقد اكتفى الكُتّاب بنعت «العبقريّ» يريحهم من مشقّة التفكير. عندنا، المرء إمّا أن يكون مُكرَّساً سَلَفاً وإمّا يظلُّ موضع الحيرة وقُلِ التجاهل حتّى يتصيّد أحدهم، لسبب ما، لقباً يطلقه عليه فيطير صيته. وحين يطير الصيت فلا داعٍ لوجع الرأس. الباقي زَخْرَفَة.
قد يظنّ الكاتب أن الإنشائيّة التزويقيّة هي من باب الوفاء للأسلوب الرحباني. لا شكّ أن لدى الأخوين إنشائيّة كما في معظم الغنائيّات، وهي على كلٍّ حالٌ ليست من أجود ما كتبا. فضلاً عن أن اللحن والصوت يتشفّعانِ للترداد والحشو، على عكس الحال في الكتابة، وفي الكتابة النقديّة بوجه خاص. يمثّل زياد الرحباني خروجاً على النهج الإنشائي ومراكمة المُنْتَظر، وحتّى المدهش أو المفاجئ المُنْتَظر. يقوم فنّه، كلماتٍ وألحاناً ومسرحاً ومقالات، على موقف سياسي وفكري مناقض لعالم الأخوين. ولعلَّ زياد هو من القلائل الذين تنعدم لديهم الإنشائيّة لا في المسرح فحسب بل في الأغاني، حيث نقع على عبثيّات وفضاءات قلّما تجاسرت عليها الأغنية، وقد تحسبها الأذن المدمنة، دعساتٍ ناقصة. على كلِّ حال لن نقعَ هنا على تنميقٍ لفظيّ وخطابيّة زَجَليّة وتكراراتٍ لا داعٍ لها إلّا موجبات الوزن والقافية. لن يقال لنا إلّا ما يريد الفنان أن يقوله، وما يقوله بلا أبّهة أو تفخيم.
ليس السيّئُ في الإنشائيات الرثائيّة أو المراثي (والمدائح) الإنشائيّة إبداءُ العاطفة، طبعاً، بل إغراقُ الكلامِ بعواطفَ جاهزةٍ أو مفتعلة وإغراق العواطف بالثرثرة. لماذا لا تكون حشمةٌ مع الصدق، وصرامةٌ في البحث مع التجرّد، وموازنةُ الجرأةِ والحقّ، والحقُّ واللياقة؟ لقد أوشكَ كلُّ ما في العاداتِ أن ينتهي إلّا عادتنا في الصراخ: نستقبل بإرهاب ونزوّج بإرهاب ونودّع بإرهاب. إرهاب بديل الإحساس والمعاناة الصامتة. حتّى الحبّ الإرهابي يَنضَج تحتَ جمره ويُمسي إفناءٌ للذات، والإرهابات الأخرى ماضية في سيرها المظفَّر. وكان الحبّ، في ضعفه وتذويبه، هو وحده ما يليق به الإرهاب، إرهابٌ هو عكسه في الحقيقة، إرهابٌ هو الارتماء ناحية نداء الأعماق حتّى التلاشي.

في شعر منصور الرحباني، سواءٌ المغنّى منه أو المكتوب للمطالعة، نجد المطابقة بين البيت وروحه، بين الشعر والطبيعة، لا الطبيعة الخارجيّة (وهذه أضعف الإيمان وقد لا تكون لازمة)، بل طبيعة الأحاسيس والالتقاطات فور انبثاقها. الفجر من صفات مناخاته، وكونه شاعراً ليليّاً يزيد، بدل أن يناقض، التماعات سَحَره. إن سواده يُنجب بياضه كما يُنجب الموج زهره الأبيض مزهوّاً فوق عتمات العدم الجبّار. بينه وبين المعاني تَواطُؤ العبارةِ، تجيئه حَفْراً وتنزيلاً، بوضوحٍ لا يجتاح نصيب الغموض الجذّاب بل يُسرّع نبضاته. كان يحلو له أن يردّد عبارة، لعلّها لجبران خليل جبران، تقول إن الشاعرَ هو أقربُ الكائناتِ إلى فجر الأشياء. والمضاف المضمر، بطبيعة الحال، هو الفجر المستمر البزوغ للأشياء المستمرة الولادة. شعر منصور الرحباني ينطبق عليه هذا الوصف، بالمقدار الغنائي الملازم له. لقد باتت دراسة شعره ميسورة بعدما سهّل هو نفسه الأمر عندما أقدم في المدّة الأخيرة على فرز قصائده عن باقي شعر الأخوين رحباني. لقد ظلم منصور الرحباني نفسه بغزارة الإنتاج، وأحياناً تحت ضغط الطلب، وربّما استدرجته قوة سلاحه، وهي، إلى ما تَقدّم، براعة متزاوجة مع التجربة أو تُعتمد بديلاً منها، وموهبة معمَّدة بذكاء يزيده الحدس والغريزة ذكاءً وحيلة. وقد جَعَلَتْه شفافيته (كانت عند «الاقتضاء» تتحجّب على هواها) يتقمّص بسهولة، إذا أراد، أساليب غيره فيوقّع، مثلاً، موشّحاً كتبه هو، باسمٍ مفبرك يوحي أنه تراثي، وذلك لمجرّد اللعب. وكان لعاصي قبله قصصٌ كثيرة من هذا النوع. ولعلّ عنوان «ناس من ورق» أكثر العبارات دلالة على موهبة «صناعة» الأشخاص، فضلاً عن بعض الأصوات الثانويّة، التي امتاز بها الساحران، فالكاراكتير، معهما، أو المغنّي، هو غيره تماماً بدونهما، وهناك أصوات كانت تبدو قبيحة حين تخلو من ألحانهما وأسْلَبتهما. لقد كانا شاعرين وملحّنين بقدر ما كانا مُخْرجَين، مع إبدال إخراج المسرح أو السينما هنا بإخراج الصوت. تعاملا مع الصوت على أساس أنه شخص، يُدار ويُستثمر كما يُدار الممثّل ويُستثمر على المسرح أو أمام الكاميرا. بهذا المعنى كان عاصي فنّاناً شموليّاً، يتدخّل في الشاردة والواردة، من تصميم الأزياء إلى تصفيفة الشَعْر، ومن طريقة المشي إلى عدد ثواني أداء التحيّة في الختام. أجهل كيف تَصرَّف منصور بعد غيابه. الأرجح، واستناداً إلى بعض الشهادات، أنه حاول إكمال النهج، مع الفوارق الشخصيّة، فعاصي كان الأب الطاغية، ولا أعرف، لأني لم أرافق أعماله الخاصة عن كثب، أية صفة كانت أقرب إلى الطاغية في ما يتعلق بمنصور. الأب الثاني؟ الشقيق؟ الحائر؟ ولا تَحفُّظَ إطلاقاً عن الطغيان هنا.

كيفَ احتمل منصور الرحباني الفراغ حين غاب عاصي، الصدر الأعظم؟ كان هو يُمثّل لعاصي الجانب القَلِق من شخصيّتهما وعاصي يُمثّل له الثقة بالنفس وبالنجاح. في الواقع كلاهما كان يَقْلَق ويُحْبَط وكلاهما، وبالأكثر منصور، كان مزهوّاً بالذات لا يتحاشى إعلانَ تفضيل نفسه على ما يُصْنَع في العالم. وكانت تتردّد على لسان منصور مقارنة بأسماء مثل شكسبير، دونما حَرَج. لعلّه قناعٌ آخر من أقنعة الخوف، يتزيّا بالتحدّي، فضلاً عن كونه تعبيراً غير مباشر عن حرقةٍ يشعر بها المؤلّف حيالَ تفوّق شهرة المؤدّي، ولا سيما منه المغنّي، على شهرة الملحن والكاتب. خاصة عندما يكون المغنّي بفرادةِ فيروز، لا يذكرها الناس قبل المؤلفين أو دونهما لمجرد نجوميّتها بل لأن طبيعةَ صوتها تحجب الاهتمام بما حوله، على الأقلّ في اللقاءات الأولى به، وغالباً ما تظلّ هذه اللقاءات تتكرّر إلى ما لا نهاية وكأنها الدهشة الأولى.
ويظلّ يتداخل الشخصي بالموضوعي. وعاصي بمنصور. وكلاهما بفيروز. وفيروز؟ عالمٌ متقاطع ومستقلّ تتحطّم على مغاليقه المفاتيح. وكلّما طلعَ الليلُ أو أدلى الصباح بدلائه استؤنفت حكاياتُ ألفِ سحرٍ وسحر وألفُ سرٍّ وسرّ وألفُ سؤالٍ وسؤال وألفُ حلمٍ وحلم. إلى أن تدرك الأقدارُ أطرافَ حدودها... فتبدأ الحكاية من جديد.
وتسأل: مَن أنت يا منصور الرحباني؟ فيجيبك من وراء ظلّه: حيث أنام تستيقظ الأحلام، وأنا الآن نائمكم.