هشام البستاني*ياسر أبو هلالة صحافي شجاع، وهو بالإضافة إلى ذلك مدير مكتب الجزيرة في عمان، وتعرض للضرب ‏والإهانة، مثله مثل باقي الناس الموجودين في التظاهرة التي انطلقت ظهر يوم الجمعة 9/1/2009 في ‏الرابية، الضاحية العمانية التي تستقر بها سفارة الكيان الصهيوني.
لكن لأن الجزيرة تملك ثقلاً إعلامياً كبيراً، ولأن خبر ضربه ظهر مباشرة على الشريط الإخباري، ومن ثم ‏في نشرة الأخبار، فقد تلقى على الفور مكالمة من الملك الأردني للاطمئنان إلى صحته، تبعته زيارة له من ‏رئيس الوزراء نادر الذهبي ووزير الداخلية عيد الفايز والناطق الرسمي باسم الحكومة ناصر جودة، ‏وظهروا يُقَبّلونه معتذرين والابتسامات على محياهم، مُعْلِمينه بأنهم ألّفوا لجنة للتحقيق في الحادث ‏المؤسف، ومؤكدين له أنها حادثة فردية.‏
حادثة فردية؟ الآن نسأل هؤلاء المسؤولين جميعاً: ماذا عن عشراتٍ من الآخرين الذي تلقوا الشتائم ‏والإهانات والضرب المبرح بالهروات واللكم والركل والدعس في البطون؟ من سيعتذر لهم؟ ومن سيؤلّف ‏لجان تحقيق بشأن ما تعرضوا له؟ وإلى متى سيظل المواطن في الأردن رخيصاً إلى درجة أن صلاحيات ‏رجال الأمن تشمل ضربه وسبه والدعس في بطنه؟ إلى متى سيظل المواطن «حادثة فردية»؟
كنت في الصف الأول لتظاهرة الرابية، وحاولت جاهداً مع بعض الأصدقاء النقابيين ‏‏(كما يشهد البث المباشر للجزيرة) ولمدة أربع ساعات متواصلة منع الاحتكاك بين المتظاهرين المتحمسين ‏للوصول إلى سفارة العدو في عمان وبين قوات مكافحة الشغب النوعية التي أُنشئت حديثاً وجهزت ‏بأحدث التقنيات المستوردة من الولايات المتحدة، هذه القوات التي سميت «قوات الدرك» وصدر لها قانون ‏خاص. كان بإمكان قوات الدرك الاستمرار في احتواء الموقف بطريقة «الدفع» التي كنا نستعملها بنجاح طوال أربع ساعات، ولكن لا، فالهراوات والدروع والتجهيزات الأخرى الهاي ـــــ تيك موجودة للاستعمال على ‏ما يبدو، لا للركن جانباً ومحاولة اجتراح طرق احتواء لاعنفية كما يُفترض في بلد يحترم مواطنيه ويحفظ ‏كراماتهم.‏
نعم، كانت هناك إساءات قليلة من المتظاهرين، فبين حين وآخر كانت زجاجة ماء أو حجر يلقى من ‏بعيد، ولكن لم يكن ذلك إلا حالات منفردة وبسيطة لم تمثّل أي تهديد على الإطلاق لقوى مدججة ‏بالدروع والخوذ. ولكن هل كان هذا مبرراً لقوات الأمن للتعامل بأقصى ما تملك من العنف مع ‏المتظاهرين؟
بالنسبة لي شخصياً، أنا المخلص لفكرة منع الاحتكاك طوال ذلك اليوم، فقد سقطت قنبلة الغاز المسيل ‏للدموع مباشرة أمام وجهي، وغبت بعدها عن الوعي لأجد نفسي في المستشفى. زميلي أ.ج.ر الذي ‏كان يساعدني في منع الاحتكاك أكل نصيبه من الهراوات حتى شبع، فيما كسرت رجل زميل ثالث (هو ‏ج.ش) وهي تُلفّ الآن بكتلة ثقيلة من الجبس.‏
عند خروجي من المستشفى، أصررت على أحد الأصدقاء لاصطحابي بسيارته إلى الرابية مرة أخرى ‏لاسترجاع سيارتي. هناك، في أحد الشوارع الفرعية الضيقة، كان إلى جانبها ما يزيد عن العشرة من ‏قوات الدرك المدججين بالعصي يضربون مواطنين اثنين لم يكن في الشارع غيرهما، كالوا لهما الصفعات ‏والركلات، وأحدهما تلقى هراوة على رأسه فانبثق الدم غزيراً، وبين الكف والركلة والهراوة كنت ‏تسمع: «يا أخو الش..»، «... أمك»، وهكذا. الحقيقة أنني خفت. خفت إن فتحت الباب محاولاً ‏التدخل، أن ينالني من الركل والضرب والسباب ما يعيدني إلى المستشفى مرة أخرى. فبلعت إهانة ‏مشاهدة آخرين ينكَّل بهم دون أن أتدخل، وطفرت دمعة من عيني.‏
عندما عدت إلى البيت، ورأيت المشاهد التي التقطتها الجزيرة لعمليات التنكيل بالمواطنين، صارت المسألة ‏أكثر من واضحة: ‏
‏1ــــ‏ ماذا يفعل خمسة دركيين مجتمعين فوق مواطن منطرح على الأرض ممسكاً بخيمة الاعتصام ‏الصغيرة يضربونه بكل ما يمتلكون من عنف وتنويعات، إلى الدرجة التي طار فيها أحدهم في ‏الهواء ليركله في بطنه؟ كيف يُؤَهّل هؤلاء الأفراد؟ وماذا يُقال لهم عن مواطنيهم ليتعاملوا ‏معهم بهذه الدرجة من القسوة والعنف والدموية؟ ‏
‏2ــــ‏ لماذا يُتعامل بعنف هائل فقط مع تظاهرات الرابية؟ وهل ـــــ رغم كل التلميحات ‏الحكومية عن «خياراتهم المفتوحة تجاهها» ـــــ تظل سفارة العدو الصهيوني خطاً أحمر يُفرَم في ‏سبيلها المواطنون؟
‏3ــــ‏ أين القوى السياسية المعارضة؟ وهل هناك تواطؤ بينها وبين السلطة لاحتواء الشارع ‏وإفراغه؟ الملتقى الوطني للأحزاب والنقابات وحركة الإخوان المسلمين غير معنيين بالشارع ‏واتجاهاته بتاتاً في تكرار مرير لتجارب الـ2000 (انطلاق الانتفاضة الثانية) و2002 ‏‏(مجزرة جنين) التي خرج الناس فيها في الموقع ذاته، وبالآلاف، ضد سفارة العدو. ففي ‏الجمعة السابقة (2/1/2009)، عندما كان يفترض أن تخرج مسيرات من الجوامع من كل ‏المناطق، لم يجد الملتقى الوطني سوى استاد عمان، الملعب الكبير لكرة القدم في العاصمة، ‏ليحشروا الناس فيه لعقد مهرجان خطابي ويفرغوا الشوارع منهم. أما هذه الجمعة، فقد ‏قررت مكونات الملتقى الوطني المشاركة فرادى في مسيرة تنظمها الحكومة وسط البلد، بعيداً ‏عن السفارة ومشاكلها، فيما أقام الإخوان المسلمون مهرجاناً لهم في طبربور، واحدة من ‏ضواحي عمان البعيدة جداً عن التظاهرة المركزية التقليدية في الرابية.‏
المشهد في الأردن مغرق بالمأساوية، فمطالب الناس بإغلاق سفارة العدو في عمان وإعلان بطلان معاهدة ‏وادي عربة يبدو ألا مستمعين لها. وبين العنف الواقع عليه من السلطة السياسية والاحتواء والتوظيف ‏الواقع عليه من قوى المعارضة الرسمية، يجد المواطن نفسه مدمى ومهاناً على قارعة الطريق، ولسان حاله ‏يقول: ليتني كنت أيضاً مراسلاً للجزيرة. ‏

* كاتب أردني‏