«سي السيد» صورة أبرز ملامحها نجيب محفوظ في ثلاثيته. هو رجل متسلط قاسي القلب يعامل زوجته بدونية، ويأمر وينهى، وزوجته تخضع، فهي المربية والخادمة. أما خارج البيت فهو «زير نساء». في القرن الحادي والعشرين، ما زال السؤال عن سلطة «سي السيد» مطروحاً في الوطن العربي

جانا رحال
«يا سي السيد، ده الحب السيد وإحنا ملك إيديك»، هكذا تقول أغنية نانسي عجرم، والغريب أن المغنية «الدلوعة» ومستمعيها لم ينفروا من الحضور القوي لهذه الشخصية في مجتمعنا. يرى الباحث في علم الاجتماع، الدكتور طاهر لبيب، أن سيادة السيد، بوصفه رجلاً له سلطة أولى وأخيرة في العائلة، هي حصيلة تراكم تاريخي اجتماعي طويل، عرفته البشرية كلها، وليس شأناً خاصاً بالعرب فقط. ويشرح أنه منذ خرج الرجل إلى الغابة وأدى مهمات عديدة، أُسندت إليه المسؤولية، ثم تدخلت ثقافات كل شعب على حدة لتكيّف هذه الصورة حسب معطياتها.
قليلون هم الرجال الذين يعترفون بأن «سي السيد» ما زال يعيش في داخلهم. يرى محمد هاشم (30 سنة) أن سي السيد «أيامه ولّت»، ويقول: «المرأة أصبحت مثل الرجل، لها شخصيتها وآراؤها التي يجب أن نحترمها». ويكمل أنه يفرح لعمل زوجته وللحياة المشتركة التي تجعلهما سعيدين، لكن هاشم يعترف بأنّ «هناك أموراً أتصرف فيها رجلاً، ولكن ليس كسي السيد» ويقصد بذلك «مهمة اتخاذ القرارات الحاسمة». يختلف طلال رضى (29 سنة) مع هاشم. فرغم عمل زوجته وانسجامه بقوانين المجتمع الحديث، ما زال طلال يرى أن الرجل يختلف عن المرأة جسدياً وفكرياً، وهو يؤدي دور الرجل بكل امتياز، لكن ليس بصفات «سي السيد» نهائياً. «الرجل رجل والمرأة امرأة، أرى أنهما لم ولن يتساويا»، ويكمل: «لا أقصد أن أتصرف كسي السيد الذي صوره لنا محفوظ، ولكني أتصرف كرجل له كيانه وأتخذ القرارات المتعلقة بعائلتي». ويؤكد أنه يحترم زوجته ولا يعاملها بقسوة، ويناقش معها كل الأمور المتعلقة بحياتهما، لكنه «لا يرضى أن يكون ضعيفاً ويسمع كلام زوجته وينفّذ كل طلباتها».
يلفت لبيب إلى ضرورة الحذر عند الكلام على تراجع حضور هذا النمط الرجولي وتأثيره (أي نمط سي السيد) في العالم العربي. التراجع قد لا يكون في مستوى النظرة إلى الرجل، ونظرة الرجل إلى نفسه ونظرة الآخرين إليه، فالرجل هو نفسه ولم يتغير، ونظرة الناس باعتباره أنه سي السيد لم تتغير، لكن ما حدث أن التغيُّر حصل في تراجع الظروف الاجتماعية التي يتحرك فيها الرجل. وتأكيداً لكلامه يلفت لبيب إلى خاصية سلبية، هي «المد السلفي الديني الذي لم يبعث سي السيد حياً فقط، بل حياً يرزق يخطب في منابر وسائل الإعلام». ويضيف أن رجولة «سي السيد»، بل وذكوريته، قابلة للتحوّل من مجال إلى مجال آخر.
يرفض أيمن (35 سنة) شخصية سي السيد، ويرفض الزواج بامرأة لا رأي لها ولا طموح، «هي ليست قطعة أثاث أحركها كما أُريد». إن الحياة الزوجية كما يعبّر عنها أيمن من أهم الأشياء في الحياة، وما يميزها أن الشخص يتعامل مع عقل يفكر ويُطور تفكيرك. لكن أيمن نفسه يعرف أنّ «سي السيد» ما زال نموذجاً بالنسبة إلى رجال كثيرين.
بالنسبة إلى طارق صالح (32 سنة) «لا تعني شخصية « سي السيد» التحدث بصوت مرتفع وفرض الآراء بقسوة وبالصراخ، فالرجل يمكن أن يكون «سي السيد» بفكره وآرائه التي يفرضها على الآخرين بقوة الإقناع». يضيف: «ليس من الخطأ بمكان أن تكون المرأة على حق وأن يأخذ الرجل برأيها».
يشرح لبيب أن «سي السيد» يغير من شكله، ويغير من أساليب إظهار رجولته. «سي السيد اليوم تغيرت أشكاله وقنوات تعبيره إلى حد أنه أصبح من الصعب الإمساك به». ويلفت لبيب إلى أن الرجولة الشرقية وجدت سبيلاً إلى الامتداد والتجلي بطرق مختلفة، وهي أساليب لم يكن بمقدور «سي السيد» أن يتبعها. ففي المقهى مثلاً، تتواصل تقاليد تُحتّم على الرجل الدفع، ما يجعله يشعر برجولته. ويضيف لبيب أن الرجل هو الذي يحسم أي صراع في الشارع، أو أي صراع سياسي أو أثناء العمل. كذلك فإنّ السيادة أو الرئاسة في الصحافة اليومية لا تكون إلا للرجل «في هذه المجالات وسواها يعبّر الرجل عن ذكورته».
ترى ناريمان (30 سنة) أن عمل المرأة والمساواة بين الجنسين لا يغيران من طبيعة الرجل الشرقي، فهو يرى نفسه «الكل في الكل والمرأة تابعة له». الرجل اليوم كما توضح ناريمان «ليس سي السيد، لكنه ما زال هو المسيطر في العائلة والمسؤول عن كل شيء». أما رولا عمار (28 سنه) فتعتقد أن عمل المرأة قضى على شخصية «سي السيد».
يشدد لبيب على أن المرأة تؤدي الدور الأبرز والأعمق والأخطر في ترسيخ «سيطرة سي السيد» وهيمنته، ويلفت إلى دراسات أجرتها الباحثة اللبنانية ماري تيريز خيري بدوي (المتخصص في علم النفس) من خلال عمل كلينيكي دام 20 سنة، تبين أن النساء المثقفات والعاملات، بمن فيهن الجامعيات، يُعدن إنتاج علاقة الهيمنة بين الرجل والمرأة ويخضعن لها.


ماذا عن المرأة؟

يلفت الدكتور لبيب إلى أن موقع المرأة يشهد تراجعاً، لسببين: الأول سياسي والثاني ديني. ويقول: «المجتمع العربي لا يبدو متهيئاً لإسناد موقع مهم ومركزي للمرأة، لأنه مجتمع ذكوري أو سيدي يرى أن كل مكسب للمرأة يكون على حساب الرجل». يرى لبيب أنّ المدّ والتأثير الديني أدّيا إلى استسلام النساء لهيمنة الرجل، والإيمان بها على أنها أمر طبيعي، وهذا الاعتقاد لم يكن متجذراً في عقول النساء العربيات قبل 20 عاماً.
ويشير لبيب إلى أنه «ليس هناك حركة نسائية حقيقية قادرة على دفع هيمنة الرجل أو سي السيد إلى التراجع»، والسبب برأيه هو أن «شيطان» نجيب محفوظ يدمج سيادته بـكل ما يحمله لقب «سي» الذي يعني الاحترام والتبجيل والتقدير، ويمكن أن
يعني الرهبة والخوف