علاء اللامي *تصلح التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الأمين العام المساعد لهيئة علماء المسلمين في العراق، الشيخ عبد السلام الكبيسي، لتكون مناسبة ملائمة لتفحص نوع الفروق بين تلك الهيئة، والحزب الإسلامي كمقدمة ضرورية لتفحص مستوى الاستقطاب الطائفي السياسي في الوقت الحاضر. معلوم أن ثمة فروقاً كبيرة تفصل بين هاتين القوتين تضعهما من حيث الشكل، ولدى القراءة الأولى، في موقع التضاد والتناقض الجوهريين. من ذلك مثلاً أن الحزب الإسلامي (وهو للعلم الجناح العراقي الرسمي لحركة الإخوان المسلمين) مشارك بفعالية في العملية السياسية الاحتلالية منذ بدايتها. وهو يحوز عدداً معتبراً من المقاعد في مجلس النواب ضمن شروط المحاصصة الطائفية التي زرعها المحتلون. ويحتل زعيمه طارق الهاشمي منصب نائب رئيس الجمهورية، وهو الحزب الرئيسي في جبهة التوافق، أو لنقل حزبها القائد.
في مقابل ذلك، تأسست هيئة العلماء على موقف مناهض للاحتلال والعملية السياسية الاحتلالية، مع بروز وصعود ظاهرة المقاومة العراقية، وكانت داعمة لتلك المقاومة دونما تحفظ، ومن منطلقات يحرص الخطاب الرسمي لها على أن يكون وطنياً عاماً ذا مرجعية إسلامية.
ومع أن الهيئة مرت بمراحل عدة من التطور، حتى استقرت أخيراً كحزب سياسي إسلامي التوجهات، وإنْ لم يعلن ذلك مباشرة وبصراحة، ولكن نشاطاتها وأساسيات فكرها البرنامجي معبر عنها في عشرات البيانات والتصريحات، تؤكد أنها أصبحت من الناحية العملية حزباً سياسياً له جمهور عريض في المناطق ذات الأغلبية السكانية المسلمة السنية، شأنه في ذلك شأن الحزب الإسلامي والأحزاب الأخرى ذات التوجهات القومية العربية. جماهيرية الهيئة هذه، تجعلنا أكثر ميلاً إلى اعتبارها حزباً سياسياً من الأحزاب الطائفية التكوينية.
ورغم الملاحظة الأخيرة، تبقى الفروق بين الحزب والهيئة لدى النظرة الأولى فروقاً في النوع لا في الدرجة، في الجوهر لا في التفاصيل. غير أن هذه الخلاصة الحكمية لن تكون نهائية وصحيحة تماماً إذا ما قرأنا بعمق المواقف التي عبرت عنها قيادات الهيئة، وخاصة تلك الطازجة، أو الصادرة في الحالات الاستثنائية، لأنها تعكس بشكل أكثر صدقاً حقيقةَ الخط السياسي العام لها وجوهره وطبيعته. بكلمات أخرى، ما تحاول البيانات المناسباتية تكراره من مواقف وشعارات محسوبة وذات مضامين «وطنية وضد ــ طائفية»، قد نجد نقيضه في التعبير عن الماهية السياسية والمجتمعية، في العاجل والاستثنائي وذي الطبيعة «الرد فعلية». في هذا القبيل، تدخل التصريحات التي أدلى بها أخيراً الكبيسي.
لا يخفي الكبيسي أن الهيئة كانت «منفتحة» على عدة قوى مشاركة في العملية السياسية، منها كتلة إياد علاوي، وقد عقدت العديد من الاجتماعات مع قيادة الحزب الإسلامي. ومعلوم أن الأمين العام للهيئة اجتمع قبل خروجه من العراق، بأحمد الجلبي الذي كان رجل أميركا الأول. وحين عاتب بعضُ المناهضين للاحتلال، الهيئةَ على هذه البادرة، قيل يومها إن الجلبي هو من جاء على قدميه ليطلب اللقاء، وإن الأمين العام الشيخ حارث الضاري «أسمعه يومها ما لن ينساه طوال حياته». ومعلوم أن تفسيراً أو تخريجاً كهذا لا يخرج الحادثة من منطق إلى منطق آخر، فهو مجرد تبرير إنشائي على أقل تقدير. ويخبرنا الشيخ الكبيسي أن الهيئة قالت لطارق الهاشمي: «أنتم الآن دخلتم العملية السياسية، وينبغي لكم أن تسترجعوا النسبة الحقيقية للسنة، لأنكم إذا دخلتم البرلمان على هذه النسبة فستصبحون شهود زور، وستؤكدون أننا أقلية... لم يسمعوا ودخلوا البرلمان، وسجلت علينا في التاريخ أننا أقلية 19%، ونحن في الحقيقة 43% أهل السنة العرب فقط، ومعنا الأكراد 13%، حيث تؤكد البطاقة التموينية أن نسبة أهل السنة 43%، والشيعة 38%، والأكراد 13%، والأقليات 6%».
وبغض النظر عن حكاية البطاقة التموينية والنسب السكانية التي يتقاذف بها الساسة الطائفيون في عراق اليوم، والتي لا سند ملموساً لها من جهة، والمتناقضة مع التوجهات الوطنية ثانياً، فإن هذا المنطق يجعل خطاب الهيئة تواصلاً نوعياً لخطاب الحزب الإسلامي، بل هو جزء وطيد من بنية الخطاب الطائفي العراقي ككل. فالفرق هنا محصور في النسبة «الحقيقية» التي يجب الدخول بموجبها إلى مباراة العملية السياسية الاحتلالية.
أما قول الشيخ في موضع آخر من اللقاء إن 95% بالمئة من المقاومة العراقية هي سُنية، فهو دليل آخر من ذات الطبيعة، رغم أنه كرقم مشكوك فيه تماماً ولا يمكن إثباته في خضم اندلاع عملية مقاومة واسعة وكثيفة وبالغة التنوع، شهدت انتفاضات واسعة وعمليات عسكرية كبرى في جميع أرجاء البلاد، ولم تكن محصورة في هذه المحافظة أو تلك. أما ما ينتهي إليه هذا المنطق، فلا شك أنه بعيد عن المتوخى الوطني وغير الطائفي والمرجو شعبياً.
في موضع آخر من المقابلة، يخبرنا الشيخ أن المقاومة تعرضت للاختراق من «ظاهرة الصحوات»، التي يحمّل مسؤولية تأسيسها للحزب الإسلامي مع التوثيق. وأنها ــ أي المقاومة ــ انحدرت من حيث قوتها إلى 15%. هذه الكارثة التي انتهت إليها المقاومة لا تستأهل من الشيخ إلا مروراً عابراً، القصد منه تحميل «الغريم السياسي» أي الحزب الإسلامي مسؤولية حدوثها.
ومع أن هذا الحزب المشارك في العملية السياسية الاحتلالية، والطائفي في العديد من توجهاته، يتحمل بالفعل جزءاً من تلك المسؤولية، غير أن الاكتفاء بهذه الأحكام لا يجوز، بل هو غير صحيح. وللدلالة على صحة هذا الاستنتاج، نتساءل: ما هو دور تنظيم «القاعدة» التكفيري والمنظمات المتحالفة معه عن كل ما حدث؟ ولماذا السكوت كل هذا الوقت على انهيار المقاومة وتلاشي 85% منها باعتراف الشيخ، من دون البحث عن جذور الأزمة؟ هل سقطت ظاهرة الصحوات من سماء صافية فجأة ودون مقدمات؟
لقد كتب عدد من المحللين العراقيين، ممن هم في خندق مناهضة الاحتلال عن التأثير التخريبي والمدمر لتنظيم «القاعدة» التكفيري، فماذا قالت الهيئة والمدافعون عنها حينها؟ ألم يغمزوا من قناة هؤلاء الطائفية أو أنه الحسد الميداني.
وفي خضم اندفاعه لإدانة غريمه ومنافسه على أصوات المناطق العراقية في الغرب والشمال، يبرئ الشيخ الكبيسي بصورة غير مباشرة أو مقصودة حكومة المحاصصة الطائفية من مسؤولية الكثير من التجاوزات، وحتى تلك التي اتخذت بحق الهيئة وكوادرها وقادتها. فهو يقول إن الشخصيات القيادية في الهيئة التي أجبرت على الخروج من العراق، إنما أخرجها الحزب الإسلامي ودائرة الوقف السني، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن 3 فقط من قادة الهيئة يقيمون في الخارج، فيما يعيش في داخل العراق اليوم الأعضاء الـ67 لمجلس شورى الهيئة، ومن بينهم الأعضاء الـ13 في الأمانة العامة، وبعض هؤلاء يحتل كراسي مهمة في التدريس الجامعي.
لا يمكن الانتهاء من هذه الجردة السريعة من دون إبداء الأسف لأحكام وعبارات كثيرة وردت على لسان الشيخ الكبيسي وكرست الطابع الذي طالما نددت به هيئة علماء المسلمين قبل غيرها. فهو مثلاً يسمي ميليشيات خصومه السياسيين من الطائفة المقابلة بـ«الحرس الصفوي»، ويجردهم من عراقيتهم على طريقة نظام صدام حسين، وهو يجمع ويساوي بين «ميليشيات بدر» التابعة لحزب المجلس الأعلى، المؤيدة للاحتلال وعمليته السياسية، وميليشيات «جيش المهدي» المقاومة للاحتلال في جملتها، مع عدم إنكار صدور تجاوزات طائفية بلغ بعضها درجة الإجرام من قطاعات منها، ودون أن يعني كلامنا هذا دفاعاً عن الطائفيين الشيعية المعلنين، فهم كانوا أول اللاهثين خلف النسب السكانية الطائفية المدانة، والمبادرين إلى إطلاق العنتريات الفارغة ضد مواطنيهم على أسس طائفية.
* كاتب عراقي