معتصم حمادة *لا يمكن عقلاً سياسياً إلا أن يتساءل عن الوضع الذي سيكون عليه قطاع غزة (وفي السياق مجمل الحالة الفلسطينية) بعد وقف العمليات العدوانية الإسرائيلية فيه. فالعدوان، كما هو معروف، قد يكون بالنسبة إلى بعض الإسرائيليين هدفاً بحد ذاته من موقع الانتقام الفاشي من الشعب الفلسطيني و«معاقبته» على صموده وثباته على حقوقه ورفضه التنازل عنها، رغم مرور أكثر من ستين عاماً على نكبته.
لكن العدوان في الأساس، هو وسيلة، ووسيلة وحشية وإجرامية من الطراز الأول، لفرض معادلة سياسية جديدة، على العلاقات الفلسطينية ـــــ الإسرائيلية، وعلى مسار الصراع بين الطرفين، واستتباعاً، على مسار الحل لهذا الصراع. وهو الأمر الذي يدعو العقل السياسي، وهو يتابع الصور اليومية للجرائم الإسرائيلية، إلى أن يتساءل عن وضع قطاع غزة والحالة الفلسطينية بعد وقف العمليات العدوانية، آخذاً في الاعتبار أن عمليات بهذه الوحشية، لا بد أن يكون وراءها هدف سياسي بمستواها، (أو ربما أكثر من هدف في آن).
ونستدل على صحة تقديرنا هذا، بأكثر من تجربة عشناها مع العدو الإسرائيلي، منها على سبيل المثال، اجتياحه للضفة الفلسطينية في آذار/ مارس 2002، وإدارة ظهره لمبادرة السلام العربية التي تبنتها قمة بيروت، قبل بدء الاجتياح بأربع وعشرين ساعة. فبعدما توقفت العمليات العدوانية على الضفة، التي استهدفت، من ضمن ما استهدفته آنذاك، ولأول مرة، السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، تحولت الحلقة المركزية في اهتمامات الجهات الراعية للعملية التفاوضية في المنطقة، من البحث عن السبل والآليات الكفيلة بالوصول إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة (كما وعد الرئيس بوش بعيد تفجيرات نيويورك وواشنطن في أيلول/سبتمبر/ 2001)، إلى طرح مشاريع لإصلاح السلطة الفلسطينية. ولسان حال اللجنة الرباعية (آنذاك) بما في ذلك الاتحاد الأوروبي (الذي اعتاد نقل الرسائل السياسية و«النصائح» إلى القيادة الرسمية الفلسطينية)، أن السلطة الفلسطينية هي المعنية ببناء مؤسسات الدولة الفلسطينية المرتقبة، وأن مؤسسات للسلطة فاسدة، لا يمكن أن تبني إلا مؤسسات فاسدة على مثالها، وبالتالي لا بد من إصلاح مؤسسات السلطة، كي تكون قادرة حقاً على بناء مؤسسات لدولة تتبنى «الديموقراطية» و«التنمية» بالمفهوم الأميركي. وبقيت مؤسسات السلطة، التشريعية والتنفيذية، والحال هكذا، منذ بدء وقف العمليات العدوانية، تغوص في نقاشات ومباحثات لإعادة صياغة القوانين والأنظمة في السلطة، كي تستجيب لشروط الإصلاح كما هي مفروضة على السلطة من الخارج. ثم، على خلفية هذا كله، وفي سياق تطورات إقليمية ودولية معينة (بما فيها التحضير لاجتياح العراق وإسقاط نظام الرئيس السابق صدام حسين)، طرحت اللجنة الرباعية خطة «خريطة الطريق»، باعتبارها مفتاح الحل للصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي.
ومنذ نيسان (أبريل) 2003، تاريخ الكشف عن مضمون خطة «خريطة الطريق» وبنودها المختلفة، والأمر يراوح عند الفصل الأول من هذه الخطة، الذي يتحدث عن وقف الاستيطان، وتفكيك المستوطنات المسماة غير شرعية (التي بنيت بعد آذار/ مارس 2001) ووقف المقاومة الفلسطينية المسلحة للاحتلال وللمستوطنين.
ومع أن مؤتمر أنابوليس الذي عقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، منح العملية التفاوضية «دفعة» أميركية جديدة، إلا أن الحصيلة النهائية لهذه المفاوضات ما زالت تراوح عند علامة الصفر، لا لشيء، إلا لتعنت الجانب الإسرائيلي، وإصراره على التفلت من أية استحقاقات سياسية، وفرض كل الاستحقاقات على الجانب الفلسطيني، في تفسيرات متشنجة لبنود خطة «خريطة الطريق» وفي استهتار غير محدود للرأي العام العربي والدولي. كل ذلك من دون التوقف عن فرض واقع ميداني في الضفة والقدس، يتوقع العدو أن يكون لهذا الواقع أثره الفعلي عند استئناف العملية التفاوضية والوصول إلى «حل نهائي ودائم».
بالطبع، فإن السيناريو الذي اعتمد في الضفة بعد العدوان، لن يتكرر هو نفسه في قطاع غزة، وهذا ما يعقّد الأمور على العقل السياسي ليستشرف الوضع في المرحلة القادمة. فاللاعبون في القطاع، هم غيرهم في الضفة، والسياق السياسي العام في القطاع، هو غيره في الضفة، وبالتالي فإن الأمور سوف تأخذ مناحي مغايرة.
فالقضية الأولى التي ستكون على بساط البحث بضغط إسرائيلي، هي كيفية الوصول إلى «ضمانات» سياسية وعملانية تقدم لإسرائيل لوقف المقاومة من القطاع، وخاصة إطلاق الصواريخ. علينا أن نتوقع أن تكون هذه واحدة من القضايا الأكثر حضوراً على جدول البحث الإقليمي واستتباعاً، كيف الوصول إلى إغلاق الطريق على إعادة تسليح المقاومة في القطاع، لتعويض ما خسرته واستهلكته في رد العدوان؛ إذ يدرك أولمرت، وليفني، وباراك، أن إطلاق صاروخ واحد على إسرائيل، بعد وقف العمليات العدوانية، سيعني فشل جيش العدو في تحقيق أهدافه، ولهذا، بالطبع، آثاره على الخريطة الحزبية وتوازناتها السياسية داخل إسرائيل، عشية انتخابات تشريعية مبكرة.
والقضية الثانية هي خروج قوات الاحتلال من القطاع. هل تسلّم إسرائيل بمبدأ الخروج من دون أن تحل محلها قوات دولية، على غرار ما حصل في جنوب لبنان؟ وما هو الموقف الفلسطيني إذا أصرت إسرائيل، واستجاب المجتمع الدولي لموقفها بهذا الشأن، هل تتحول هذه القضية من خلاف فلسطيني ــــ إسرائيلي، إلى مادة لخلاف جديد فلسطيني ـــــ فلسطيني، يعمّق الانقسام في الحالة الفلسطينية، أم أنه يمكن الفلسطينيين التوافق على رؤية وموقف موحدين؟
وإذا ما تجاوزنا ألغام القضيتين الأولى والثانية فستبرز أمامنا ألغام القضية الثالثة، وهي ذات شقين:
ــ الأول هو إغاثة سكان القطاع، وتوفير حاجاتهم من الطعام (اليومي) وأماكن مؤقتة للإيواء (خيم وبيوت جاهزة) ومياه للشرب والاستعمال المنزلي، وبديلاً للمدارس المدمرة... وخاصة أن الدمار طال كل شيء، وقضى على مقومات الحياة اليومية لسكان القطاع، وبالتالي لا بد من البدء من نقطة الصفر في الإغاثة.
ــ الثاني، إعادة إعمار ما هدمته العمليات العدوانية، من منازل، ومؤسسات ومرافق عامة، وهي تقدر بالمليارات.
ألغام هذه القضية ستبرز على النحو الآتي: من سيشرف على هذا المشروع الضخم، لإعادة الحياة إلى القطاع وإعادة إعمار ما هدمته الحرب العدوانية، السلطة الفلسطينية الممثلة برئيسها محمود عباس وحكومتها برئاسة سلام فياض، أم «حماس» ممثلة بحكومة إسماعيل هنية المقالة، أم وكالة الأونروا ومؤسسات دولية أخرى، دون تدخل من «حكومة» هنية؟
القرار في هذا الموضوع لن يكون فلسطينياً، بل سيكون قرار الجهات المانحة، العربية والدولية، ولعل هذا قد يمثّل (بل من المتوقع أن يمثّل) عنواناً لصراع جديد فلسطيني ـــــ فلسطيني، يستل فيه كل طرف شعاراته، وحججه، وأوراق القوة لديه.
الخطير في هذا الأمر أن يمتد الصراع، وتمتد المناكفة على حساب الجرحى، والمشردين، والجائعين من أبناء القطاع، فيصبحوا ضحايا العدوان، وضحايا الانقسام الفلسطيني، بكل ما في هذا التطور السلبي، والسلبي جداً، من تداعيات على العلاقة بين الشارع والقوى السياسية على اختلاف اتجاهاتها.
بعد هذا، ستطرح سلسلة من القضايا السياسية البحتة ـــــ إذا جاز التعبير ـــــ وهي قضايا شائكة كقضية استئناف العملية التفاوضية، والتنسيق الأمني، ومصير مؤسسات السلطة على خلفية التباين بشأن نهاية ولاية الرئيس عباس.
إذن، الفلسطينيون أمام خيارين:
إما أن يروا الأوضاع على ما هي عليه، فيبادروا إلى التوافق من أجل التشاور وسد الثغرات وبناء مواقف موحدة، وإما أن يتركوا ريح الخلافات تعصف بهم مرة أخرى، في وقت هم أحوج فيه ما يكونون إلى الوحدة.
فأي طريق سيختارون، وأي استحقاقات ستجابه القضية الفلسطينية، وما هو تأثير هذه الاستحقاقات على مستقبل القضية. أسئلة مفتوحة على النقاش، ولكن بمسؤولية.
* عضو اللجنة التنفيذية
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين