وجدان دهاميزهو دمك في كل الألوان وأنت تسير! وعلى جبهتك علامة أنك ستصلب في غربتك ألف مرة. فالمطر الغزير النازف من جرح غزة اليوم، يملأ قلبك حزناً. ويملأ قلبك حزناً أن يخونك الإخوة، وأن يذكروك قبل طلوع الفجر وأن يعلقوا لحمك المدمّى أمام المعابر والسياج في حارات التاريخ المفتوحة، حيث تجار الهيكل يكنسون الزوايا من آثار الصلوات.
يقول لك الجرح تقدّم. تتقدم وتُجرح، فلا تشكو، لأن تضاريس الجسد المدمى أثخنتها سيوف الإخوة قبل الأعداء. يقول لك الأطفال تقدّم، تتقدم... رحلة الدم قد بدأت من جديد. ترى أمامك الموت في أطفال القنابل والقذائف، ولكنك لن تتردد. تعلم أن الذي لا يموت اليوم يموت غداً، فتقسم أن تموت اليوم ليحيا طفلك غداً، تترك خلفك وصية لأطفالك «احرقوا جثتي وانثروا رمادي في الرياح الذاهبة جنوباً لأنني لا أريد أن أكون حياً ميتاً».
ترتفع الحرائق، وتدوّي الانفجارات ويتدفق الدم غزيراً يروي جذور الزيتون والليمون. تفتح عينيك لمرة، فترى وجه طفلك يستدير كالبدر ويضيء وجهه فيأخذ مكانك ويحمل بندقيتك ويطلق النار ويردد: لعيونك يا فلسطين يا أجمل ما في دنياي. وماذا أقدّم لك غير دمي!
بعد اليوم، يجب أن تنتهي فيك خيمة اللاجئين وتحل بندقية العودة مكانها لتكتب قضيتها على خريطة الوطن المفجوع. الوطن ــ النهر المنفجر دوماً تحت أقدام الأعداء الذين وطئوا أهلاً وحلّوا سهلاً في قرى ومدن لم يحتلوها، يشربون فيها نخب التعايش الأخوي في المرافئ، في المنتجعات المضاءة لمنارة السلام.
أمامك يا فلسطين التي دفعت وتدفعين آلاف الشهداء الأطفال، الأمهات الأحرار العزّل وآلاف آلاف الأبطال العمالقة، وأنت أرض العمالقة، أرض اليبوسيين والكنعانيين، أرض الخضر، وعيسى وكمال ناصر وأحمد ياسين ويحيى عياش، أرض محمد زغيب، عبد القادر الحسيني وعز الدين القسام، أرض محمد الدرّة ولميا أبو عيشة.
فلسطين، أيتها المصلوبة في عز الجاهلية، لقد اكتملت دورة الدم، وآن لدمك أن يغسلهم من العار. حين تآمروا عليك وباعوك بفضة من عقدهم لشراء العروش والإمارات وكراسي الحكم.
اليوم يوم غزة. ترجّلي يا فلسطين عن صليبك فلم يعد افتداء المجرمين من شيم الكرام. لقد غطى يهوذا وجه الكون! فلتفتخر آبار النفط تحت عروش الطغاة ويسير العالم حافياً عارياً أمام لوعة أمهاتك... دموع أطفالك التي تفجّرت أنهاراً مقدسة تلعن الخَوَنة والسماسرة.
ليسطع لون دمك في كل بقاع العالم. ليصنع وطناً آمناً لأطفالك الذين دفعوا ضرائب تخاذل أقاربهم وأبناء جلدتهم طويلاً. ليحصل أطفالك على مدرسة في أقدم مدن العالم، أريحا، يتعلّمون ويعلّمون أصول الحضارة التي كانت منارة للعالم.
لينعموا بسرير يلجأون إليه بعد عقود من أسره الشوك والبرد والعراء، والخيمة.
ليحلموا بوطن تدخله العصافير ولا تخاف قناصها وتعود إليه سنونو فرحة مزغردة إلى الشبابيك والشرفات... لتعود شجرة الزيتون المقدسة توزع زيتها لإضاءة العالم الذي ضاع فيه الإنسان، وحكمه طاغوت المال والطمع.