ورد كاسوحةوإذ يقف المرء عاجزاً عن «دحض» هذه الأمثلة في «المقاومة السلمية» لفرط واقعيتها ونزاهتها الأخلاقية، فإنّ دحض التوظيف السياسي لها في سياقات تاريخية مغايرة هو من السهولة بحيث لا يكلّف المرء أكثر من التدقيق قليلاً في خلفيّات هذه التوظيفات الإنسانوية المبتذلة. فنحن هنا إزاء ميكانيزمات تشتغل ليل نهار على إعادة إنتاج المعنى وتخليصه من كل ما يمكن أن يثير حفيظة الرأسمال المهيمن في الغرب والخليج العربي. ولنأخذ مثالاً على ذلك طريقة مقاربة هذا الرأسمال وملحقاته «الفكرية» للتظاهرات الاحتجاجية على مجازر غزة. فبعض الأقلام في الصحافة العربية راعها هذا النمط «الشعبوي» في الاحتجاج على ارتكابات إسرائيل، تماماً كما راعها من قبلُ قذف منتظر الزيدي حذاءه في وجه جورج بوش!
وليس من قبيل الصدفة على الإطلاق أن تخرج علينا فتاوى وهابية تدين بدورها هذه الاحتجاجات وتصفها بذات الصفات التي أطلقها عليها سدنة الفكر الليبرالي الحر! فهذه الإدانات الديماغوجية تصدر في النهاية عن الجذر الرأسمالي النفطي ذاته، وإن اختلفت تمثّلاته الأيديولوجية والفكرية.
ذلك أن هذا النمط الرأسمالي الريعي لا يسعه إلا أن يؤدّي واجبه على أكمل وجه، وواجبه اليوم إبقاء الاحتجاجات المناهضة للأسرلة المتمادية في حدودها الدنيا بحيث لا تتهدّد مصالحه المشتركة مع إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة و«العالم الحر». إذ لا يمكن هذا الحلف الطبقي المهيمن أن يحتمل خروج الرموز التي ظهرت في مسيرات الاعتراض على المجزرة عن حيز الاستهلاك اليومي والدعائي.
فصور غيفارا وتشافيز وياسر عرفات وحسن نصر الله (هل يمكن تخيّل صور حسن نصر الله على تي شيرتات ممولة نفطياً!) لا بأس بها ما دامت تغذي آلة الاستهلاك الرأسمالية
المتوحشة. أما أن تخرج هذه الرموز عن السياقات المرسومة لها مسنودة بشعارات تدين آلة القتل الإسرائيلية المدعومة بالنفط العربي والنفاق الغربي (الرسمي طبعاً)، فهذا ما لا يجوز السكوت عنه.
وكما هي الحال مع رموز اليسار، كذلك مع الرموز الإسلامية التي وسمت الكثير من مسيرات الاعتراض في العالم. فالغرب بخلاف ما يعتقد كثيرون على استعداد تام لقبول حركة «حماس» وشعاراتها وكل محمولها الرمزي إذا ما أذعنت لشروط إسرائيل وحلفائها من «المعتدلين العرب»، فلا همّ بالنسبة إلى إسرائيل إن كانت حركة «حماس» ذات طابع إسلامي أو يساري أو فوضوي، وإنما المهم أن تمتثل لشروط التسوية القادمة، وأن تكف عن كونها «وريثة» (شرعية
أو غير شرعية) لمنظمة التحرير الفلسطينية وبرنامجها المرحلي القاضي بتحرير الأرض ومقاومة الاحتلال بجميع الوسائل الممكنة وعلى رأسها المقاومة العسكرية.
فهذه المقاومة هي في النهاية العقبة الأساسية التي يجب إزالتها حتى ينضب معين دعاة الممانعة، وبالتالي يستوي الخطاب النيوليبرالي تماماً من دون منغّصات تذكر، بما يتيح لأصحابه التفرغ نهائياً لهوايتهم المفضلة في صناعة الصور الكولونيالية وتسويقها بوصفها صورة القضية وقد ارتدت طابعها الإنسانوي الحقيقي. ذلك أن سدنة المشروع الكولونيالي الآفل لا يريدون لأهل غزة الظهور بغير مظهر المستجدي للمساعدات الغربية. فاستجداء الغرب والتسوّل على منابره السياسية والإنسانية والأمميّة هما الطريق الوحيد لكسب تعاطفه مع القضية الفلسطينية!
وكأنّ هؤلاء لم يتّعظوا بعد من كل القرارات التي أصدرها مجلس الأمن بخصوص القضية الفلسطينية وآخرها القرار 1860، وبقيت حبراً على ورق، فقط لأن إسرائيل ارتأت أنها قرارات لا تلزمها ولا تخدم أمنها القومي. فإذاً، كيف يمكن مقاربة إنسانوية مزعومة أن تقف في وجه كل هذا الصلف وكل هذه العنجهية الإسرائيلية المفرطة!
وكي لا تأخذنا الغفلة إلى إسباغ مشروعية ما على هذه المقاربات الناقضة لمعنى القضية الفلسطينية يجب القول إن هذه المقاربة الإنسانوية التي يتوسلها الخطاب النيوليبرالي إنما تقف في صف العنجهية والعدوانية الإسرائيليتين لا في وجههما، وهي وإن لم تتبنَّ السردية الصهيونية بالكامل، فإنها تسندها وتزودها بالحجج والذرائع. ذرائع تتيح لهذه السردية أن تقف على قدميها، وأن تجد لدى بعض العرب من يستسيغها ويستمرئها بحجة أنها توفر «مخرجاً معقولاً» للمأساة الغزاوية. «مخرج» يقول بأن مقاومة تبيح للعدو قتل شعبها بأبخس الأثمان ليست بمقاومة، وبالتالي فإن الأولوية الآن هي لوقف النزف الدموي المتفاقم في غزة، حتى لو كان الثمن قطع رأس المقاومة. ألم يقل محمود عباس ذلك وإن بلهجة مغايرة وأقل وطأة؟ وكذا فعل وزير خارجية مصر وباقي الجوقة «العربية المعتدلة».
لم يعد هذا الفريق يخجل من إظهار ولائه العلني لإسرائيل ولشروطها المجحفة في تصفية القضية الفلسطينية وتسويتها بشكل نهائي، وإن كنا لا نستغرب هذا الموقف من أنظمة عربية باتت جزءاً لا يتجزأ من المشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي في المنطقة، إلا أن انسحابه ــــ أي الموقف ــــ على بعض «النخب» لهو أمر يبعث على الأسى حقاً.
ويبدو أن «المناهضة» التي أبداها هؤلاء مطلع التسعينيات للمد الحريري ــــ السعودي ــــ البعثي لم تكن بالقدر الذي كنا نعتقده، بدليل ما هو حاصل اليوم من تجنّدهم بشكل كامل لصناعة صورة مغايرة عما يحدث في غزّة. فالبنى الطبقية والاستبدادية المهيمنة التي «طحنتهم» عندما كانوا
في صلب حركة التحرر العربية عادت لترفعهم الآن، وتضعهم على رأس آلتها الدعائية الفظة، وجلّ اهتمامهم في هذه المرحلة تظهير «الوجه الإنساني» لغزة وحملنا على تبني رواية الكلفة الباهظة بوصفها الحجر الذي يسند خابية رعاتهم من «المعتدلين العرب». وحالهم في ذلك كحال الإسرائيليين الذين استبطنوا على ما يبدو الرواية النازية، وحملوها معهم إلى «غيتو غزة» ليحيلوه خراباً كما فعل جلادوهم النازيون مع غيتواتهم المكتظة في وارسو وأوشفيتز.
وإذا كان الخطاب النيوليبرالي المحافظ يدين في نسخته العربية لنهج أنور السادات وسياساته الكارثية فلا بأس من استعادة الرجل وكلمته الشهيرة عن لبنان وإن على نحو مقلوب، لعلّ تلامذته يتركون غزة لشأنها ولأهلها ومقاوميها: ارفعوا أيديكم عن غزة، ودعوها تصنع صورتها.

* كاتب سوري