رائد شرف *تصعب الكتابة التحليلية في وقت الأزمة. فالكلمات المكتوبة قد تفقد حدة معناها، وبالتالي شيئاً من قصدها، عندما تجد نفسها تصف تصرّفات إنسانيّة، بينما هذه التصرفات تتغيّر، مع تغيُّر طبع البشر في لحظة الأزمة، وعندما تطرح تفسيرات على أسس سببية، ثم ترى نفسها، في وجه تغيّر خطط البشر في الأزمة، أمام أسباب أخرى كانت هنا دائماً، وكان لها فعلها الباطني في تكوين شخصية السياسات، لكن لم تتسنَّ الفرصة سابقاً لبروزها موضوعاً مؤاتياً للكتابة.
قد يبدو هذا الكلام منطقياً، لو أننا في المشرق العربي لم نكن نواجه أزمات منظمة ومتتالية، لها خبراتها كما لها مؤسساتها ومسرحياتها. أي، لها من الرجال من يتقن عفوياً لغة الأزمة ليجعل من تأثيراتها شيئاً آخر، نهجاً للأوقات العادية التي تلي الأزمة. فالأستاذ نواف مثلاً، غضب من كلام السيدة راغدة، ويبقى أبرعهم الأستاذ مارسيل الذي فوجئ بشدة غضب الأستاذ نواف. هو وضع ممكنٌ فيه التنظير، لا بل أخذ العبر. وتبقى الخضّات الوحيدة في تعداد القتلى كما في المفاجأة (أو القرف) أمام مشهد المتناحرين حول طاولة حوار، يتباوسون، و«الأحبة» يتشاركون صحن الحمص في مطعم البلد مع من أوقف العدو عن قصف المطار ليتمكن من «إنقاذ» طائراته الخاصة.
المعركة الأخيرة في غزة تبرز كفصل ثانٍ من معركة على صعيد المنطقة بين خطين، أحدهما، من دون أدنى شك، متواطئ مع الصهاينة ومع المشيئة الأميركية. وثانيهما مقاوم للأول ومدعي الانحدار من تاريخ المنطقة النضالي. لكن النقاشات الصحفية والإعلامية، أو بالأحرى «المحاججات»، ما زالت تتسم بلعبة تقديم كلٍّ لذاته بتميّزه عن الآخر في المواقف، وكأن شيئاً لم يكن، وكأن ليس هنالك بين الأفرقاء السياسيّين من حاول أن يلغي الآخر جسدياً وما زال يدعو لذلك.
جل هذه التقاليد من نكران الواقع والتساهل مع من سخّفته دعاية بعض الأنظمة «الممانعة» بتسميته «القوى المشبوهة» لأنّ النظام الإقليمي ـــــ الأميركي لم يسمح لها بصدامية أكثر جدية مع الخيانة. إذاً جلّ هذه التقاليد يعود إلى توازن قوى إقليمي، يحمل في طيّاته توزيعاً خاصاً للأدوار الإعلامية، لا يستوي من دون تأثير كبير على أفعال المتناحرين من الخطّين السياسيّين، جاعلاً أعمالهم تتنافى ومصلحتهم المفترضة، مؤجلاً للحرب المفتوحة بينهما، رغم كل الخضات والخيبات والخيانات واستنزاف مشاعر الناس، ومحصناً العدو الصهيوني في موقعه.
في النظر إلى مجرى اختبارها وتفاعل الفاعلين معها، تمثّل المعركة في غزة، كما في كل معركة عسكرية قبلها، نقطة تفاعل اجتماعي تفرض على جميع القوى السياسية على الساحة العربية الإدلاء بآرائها بالصراحة والوضوح التي لا يمكن أن نراها مع سكوت المدافع، آخذة بـ«وقع الكارثة» حجتها الغالبة على كل الحجج.
فمن ناحية فريق الممانعة، نرى إسكاتاً وتأجيلاً لكلّ الآراء المنتقدة من داخل الفريق لأدائه على المستوى الداخلي تحت حجة نسج صلابة الجبهة في خضم المعركة. وتلفزيون المنار يعطي مثالاً على ذلك، حيث إنه نادراً ما يستضيف في برامجه الحوارية ضيوفاً من صف خصومه السياسيين لمناقشة مؤيدي حزب الله. ولا يعطي المجال لمؤيديه من غير الحزبيين في تبيان مواقفهم المنتقدة للحزب مثلاً، في تعاطيه في الشؤون الداخلية اللبنانية. ممارسة يتسم تلفزيون المنار بها في أوقات المعركة كما في أوقات الهدنة، وتعود أصولها إلى نظام إقليمي وداخلي، هو نظام أوسلو، كان فيه توزيع للأدوار السياسية والعسكرية، جعل من حزب الله ضيّق الأفق النقدي والسياسي والتحرك في القضايا الداخلية (حتى قياساً بمنطق القوى الطائفية الأخرى) على قياس الدور المسموح له فيه، ممّا إلى «طبيعة» خمينية عند «الحزب اللهيين» تريد أن تبقي عموم الشيعة في منطق «الأزمة» الأحادي، كما يشاء خصوم الحزب أن يصدقوا. وذلك بالرغم من صوابية شعار «كل يومٍ عاشوراء» في بعض «السوسيولوجيات العفوية» (بالاستعارة من بورديو). يمكن، لتأكيد ذلك، الأخذ بالمثل بتعاطي فريق الممانعة الإعلامي المتسامح مع آراء فريق «الاعتدال العربي» في أثناء حرب غزة الحالية، وكما حصل في حرب لبنان ٢٠٠٦، أي في لحظة وقوع الخيانة.
لقد حاول فريق الاعتدال هذا، في لبنان، قبل اندلاع الحرب على غزة (أو تصعيدها، فهي لم تتوقف يوماً) أن يعطي نفسه بعض الصدقية في وجه حجة حزب الله الدفاعية التي باتت مدعومة من نتائج لجنة فينوغراد وغيرها من تطورات الداخل الإسرائيلي المتأزمة، بطرحه «خطته الدفاعية» على فم سمير جعجع. وكان هذا برهاناً على قوة منطق عون وحزب الله بإجبار الفريق الخصم على تبني منطقهما (العسكري الحساب) والتخلي قليلاً عن المحاججة الطائفية في المعركة «المسيحية المسيحية» الانتخابية (وهل كان سمير جعجع ليكون المتحدث الأنسب باسم «الدفاع الوطني» لو كانت الأولوية لإقناع «السنة» في حسابات ١٤ آذار الطائفية؟). لكن الحرب على غزة أتت لتدفن هذا المنطق، ليعود «هول الأزمة» بمنطقه الحسي ليمثّل الحجة المطلقة، حيث تذهب كل المناقشات، في لبنان كما في العالم العربي. وكان قد حصل ذلك سابقاً، إذ إن حرب تموز ٢٠٠٦ كانت مناسبة لفتح موضوع سلاح «حزب الله» رغم حسم هذا الموضوع في طاولة الحوار التي سبقت الحرب (وتسويق اهتمام جنبلاط بالاستماع إلى الخطة) ورغم إثبات الحرب أن لا أحد يقوى على جيش العدو إلا جيش... حزب الله. والأخطر من ذلك، وتنافياً مع المحصول العملي للحرب، استغلت حرب تموز لقلب بعض الرأي العام اللبناني على منطق الصراع مع إسرائيل، لدفن كل وعيٍ نقدي في المسألة، و... حقيقةً، لدفن القرن العشرين العربي بأكمله. لكن المسألة أعمق من ذلك، والمنطق السياسي الجديد المسوق في إعلام النفط لا يلغي فقط «الوعي النقدي» تجاه إسرائيل (وصف الشيء بالوعي ضعيف). للمشروع أن يكون كاملاً، يلحقه الفكر السياسي الجديد بمنطق التقسيم الداخلي للعالم العربي، وإن أذنت المناسبة، لكل دولة ومدينة وضيعةٍ في المنطقة. والوسائل المنطقية تتراوح بين العنصرية المعلنة والصدامية من التحريض على «الشيعة» والمحاججة «الحضارية» (أي المتكبرة، وبالتالي الصدامية باطنياً) الآخذة منطلقها من «لحظة الأزمة»، لاغيةً تاريخ الأزمة وتاريخ تكرارها (لكأن أزمة غزة هي الأولى على مفصل طرق بين الاعتدال و الغوغاء).
«لماذا المقاومة إذا كان الشعب سيموت»، هو الشعار الأبرز في الصحف العربية (المعتدلة مع قطع الرؤوس السعودي)، مع ما يوحيه هذا الشعار، حتى عند من لا يقصد ذلك، من منطلق فوقي وعنصري تجاه «غيبية فكر» حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين، وبالتالي مع ما يوحيه من إدانةٍ حسية لها، فهي لا تحارب لشيء إلا لتحارب. أما في لبنان، فكان التهويل الأبرز بالمنطق الآتي: «لماذا إقحام لبنان في حروب الآخرين؟». وهو منطق من صلب الأيديولوجية اللبنانوية بما تحتويه هذه الأيديولوجية من دعوة للأنانية، والسكوت عن الظلم، والتميز عن «الآخر» العربي. هنا يجب التنبيه، كما في كل مناسبة تسمح، أن أي تيار سياسي لبناني، «مسيحي» أو «إسلامي»، «وطني» أو «يساري»، لا يبني جواباً ونقداً لمواقف الأيديولوجية اللبنانوية، هو من صلب «النظام اللبناني» القهري، وعميل للقوى المهيمنة فيه. ألم يحن الوقت مثلاً لنتخطى هذا الهراء عن «حرب الآخرين» و«إقحام لبنان»؟ ألم يكن دعاة «الحياد» الآن يبررون التعامل مع إسرائيل بالتخاذل العربي تجاه لبنان في السابق، وبالعنصرية نفسها (ولو! نحن شمعة هالشرق، هيك بتعملو فينا؟ وين العرب؟).
نعرف نهاية هذا المنطق. إنّها العنصرية اللبنانوية التي تخدم الطبقة المهيمنة ومن يرضيهم الأمر الواقع. إذا كانت الأنظمة العربية ساكتة عمّا يحصل في غزة أو في لبنان سابقاً، فهذه ليست حجة لشعبَي لبنان وفلسطين كي لا يتعاونا، وكي لا يتدخل لبنان لإنقاذ غزة. إن لم يكن ذلك ممكناً في المعركة الحاصلة الآن، فلا بد منه في المستقبل. إقناع الناس بذلك لا يأتي من دون إقناعهم بشرّ إسرائيل ونظام الاستتباع العربي، أقله على المستوى الاقتصادي، كما هو حاصل الآن، وكما قد يزداد سوءاً لاحقاًً. إقناع الناس بذلك لا يأتي من دون إقناعهم بعزلتهم التامّة، على المستوى الفردي، أمام أنظمتهم وإعلامهم الغريب وتخلي القوى السياسية التقليدية عنهم: «لا تمثيل لكم في البرلمان، ولا عند المذيع التلفزيوني اللامع»، ولو استقبل هذا الأخير ثمانية عشر مراهقاً من ثماني عشرة طائفة بقصد تمثيل كل الآراء السطحية في المجتمع (كما فعل أحدهم أثناء حرب تموز). يجب إقناع الناس بوحدة مصيرهم، كما بوحدة مأساتهم أفراداً معزولين بين بلدٍ وآخر، بين نظام وآخر، كما يفعل حزب الله مع «شيعة» الهوية ويستثني غيرهم (وهو بذلك حزب تقليدي، حتى بالمنطق الإسلامي). وكل قوى سياسية لا تخبر الناس بذلك هي متواطئة، من حيث تدري أو لا تدري، لنظام الإخضاع العربي. وربما كانت ظروف القتل الاستثنائية التي نمرّ بها «بين الحين والآخر»، وكما يحصل الآن في غزّة، تصلح لأن تكون خير لحظة للتأمّل في ذلك، بالصفاء الذهني الضروري، بينما تسقط مسرحيات الخلافات بين الأنظمة والقوى التقليدية.
بدلاً من ذلك، بدلاً من أن يبني حزب الله وغيره من الممانعين، على أنقاض حروب غزة ولبنان، «رواية الخيانة» الكفيلة بإنتاج تحوّل إيديولوجي نضالي ممتاز على مستوى لبنان والمنطقة، يكتفي برواية البطولات والتمجيد بالذات، الضرورية حقيقةً على المستوى المعنوي لبعض الفئات الشعبية، لكنها تبقى مجحفة في إقناع غيرها من الفئات.
أمّا في المقابل، وبالشعارات التي أشرنا إليها، تمثّل الأزمة مع وقوعها، فصلاً إضافياً لبناء «إيديولوجية الاستتباع» في العالم العربي، و«رواية الكارثة»، على يد جيشٍ من الصحافيين والفنانين والشعراء: تستغل الأزمة لإعادة إنتاج العداء لكل شكلٍ من العمل الحربي، إسرائيلياً كان أو عربياً، مساويةً بذلك بين «النضال العربي» والاحتلال الإسرائيلي، ومهيّئةً النفوس لنظام إقليمي جديد.
أيديولوجية الاستتباع العربي تأخذ الكثير من الأيديولوجية اللبنانوية. نجد متموّليها من أمراء النفط يفضّلون على الصعيد المهني، توظيف الخبرات الصحفية اللبنانية المتمرّسة في مجتمع التقسيم والطائفية كما في التملق للغرب. ومن المضحك (والمطمئن) أن نرى بالمناسبة بعض بهلوانات الإعلام في النظام المصري، كما في الصحف النفطية سابقاً، يأخذون النماذج اللبنانية في التحريض إلى حد الغباء، عبر شتم حزب الله على أنه «شيعي»، و كأن «للتهمة» أي فاعلية جدية على الأرض الاجتماعية المصرية. لربما اعتقد مهنيّو النظام، في نرجسية انغلاقهم المهني، أنهم وضعوا يدهم على «تفنجة» ذكية فقط لأن غيرهم من الإعلام العربي الملبنن استخدمها (وصف اللبننة هنا ليس للإطراء).
وكما ذهبت سابقاً الأيديولوجية اللبنانوية ببعض حامليها من البورجوازيين والوصوليين (الكتائب والقوات) إلى التعاون المعلن مع إسرائيل، لا يبدو مفاجئاً التنسيق الحاصل الآن بين دول الاعتدال والعدو على حساب فقراء المشرق العربي. مأساة غزة، كما مأساة جنوب لبنان، هي إعادة لمجزرة صبرا وشاتيلا.
يبقى أن نفرق بين الإعلام الاستتباعي ومموّليه من أمراء النفط، في تقدير مستوى اتساع رقعة الخيانة الاجتماعية في العالم العربي. وبالرغم من الاشتباه بالتواطؤ الواعي مع المشاريع الصهيونية لبعض أسماء الإعلام العربي لقربهم من السلاطين وإمساكهم ببعض المواقع المهنية الحساسة، لا يمكن عدّ كل موظفي إعلام الاستتباع في خانة الخيانة، رغم تحمس أغلبهم «لمنتجات» المشروع الاستتباعي، من معاداة للمنظومة الدفاعية وكل عمل مسلح، وحبهم للحياة، وحتى رغم حرب بعضهم العنصرية على فئات شعبهم المؤيدة للمقاومة. نقد هؤلاء عليه أن يصيب صلب المشكلة الناتجة من موقعهم وتاريخهم الاجتماعي، وأغلبها جاء نتيجة ما قصّر «الفريق المقاوم» في معالجته.

* باحث لبناني