في مقابل صورة «الدولة المسالمة وسط محيط إرهابي» التي يتلقّاها المواطن الغربي، اكتشف هذا الأخير في لبنان عام 2006، وجهاً آخر لإسرائيل. وجه تكرر على الشاشات العربية في نقلها للحرب على غزة، وجعلهم يقفون مشدوهين أمام فظاعات الدولة المجرمة بحق المدنيين، ويعيدون تقويم مواقف حكوماتهم التي تغض البصر عنها، بينما يستنكرون الجهل الطوعي لبعض أقرانهم من المواطنين في الغرب
رنا حايك
«خلص. بيكفّي. ألمانيا دفعت كفاية ثمن المحرقة النازية، وصار وقت يتحاسبوا الصهاينة»، تقول أنيت ياسبر بلهجة عربية مكسّرة والحنق يخنق صوتها.
انتقلت هذه الألمانية للعيش في لبنان مع زوجها اللبناني منذ حوالى 15 عاماً. خلال هذه الأعوام، شهدت بأم العين، مدى «تحضّر» جيش الدفاع الإسرائيلي والتزامه بقوانين الحرب كما في المواثيق الدولية. روّعتها أشلاء الأطفال المتناثرة تحت خيمة الأمم المتحدة في قانا عام 1996، وفجعتها مجزرة مروحين التي قضت فيها عائلة بأكملها عام 2006.
خلال العدوان، قضت أنيت ساعات طويلة أمام التلفاز الناضح بدم الغزاويين القاني، وهي تتابع عن كثب ما يعجز مواطنوها عن متابعته في بلادهم، حيث تبثّ الأخبار والصور بعد «فلترتها» كما تؤكد.
تستعيد أنيت قضية المحرقة النازية، لتوضح كيف تحولت ضحيتها اليوم إلى جلاد «إنها مجزرة. الإسرائيليون ينتقمون لأجدادهم من أجساد الفلسطينيين، فيقترفون مجازر أبشع من تلك التي تعرّضوا لها في المحرقة على يد النازيين. ولا أحد يحاسبهم»، فيما تستنكر موقف بلدها الذي يحاول التمثل بما تسميه «الأخ الأكبر»، أي الولايات المتحدة، فيعتنق مواقفه ويقفل عينيه أمام المجازر الإسرائيلية الفاضحة.
لكن «الأوان قد آن لألمانيا لأن ترفض إغلاق عينيها للمرة الثانية» كما تقول مواطنة ألمانية أخرى تقطن لبنان منذ 40 عاماً، روس أبكاريوس. فقد حاكم العالم بأسره الشعب الألماني لأنه أقفل عينيه أمام المحرقة النازية، «أما اليوم، فلا أحد يحاكم ألمانيا والعالم على سكوتهم إزاء الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بالشعب الفلسطيني على الملأ».
لا يختلف رأي الإنكليزية ويندي سميث، التي ترى أن «أفعال إسرائيل غير مبررة بتاتاً»، أو رأي الفرنسي كريستيان لومتر الذي لم يفاجئه «موقف ساركوزي المناصر لإسرائيل وأميركا» عن آراء السيدتين الألمانيتين.
إلا أن الهولندية ميا ديركس تثير خلال إبداء رأيها المتعاطف مع الفلسطينيين والمستنكر لموقف بلادها منه، نقطة لا يزال الغرب برغم وعيه لها أسيرها. إذ تتحدث عن «استغلال إسرائيل لعقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود، واستثمارها لماكينتها الإعلامية الجبارة في الغرب لتلميع صورتها، ليثير الإسرائيلي الذي يرتدي بذلة أوروبية منمقة تعاطف المواطن الغربي، بينما يلغيه الملتحي الذي يرغي ويزبد صارخاً باسم حماس». فالإعلام الغربي يتعمد التعتيم على تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، واقتطاع الأحداث من سياقها التاريخي في تقديمه للحدث الراهن. هذا «التعتيم الإعلامي الممارس في الغرب، وتقاعس الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عن محاسبة إسرائيل على عدم التزامها الفاضح بالقرارات الدولية وعلى تعرضّها السافر لمقارّ الهيئات الدولية، إضافةً إلى المواقف الأوروبية التي تتفادى دوماً الاصطدام بالولايات المتحدة، كلها عوامل تزيد الواقع سوءاً» كما تقول ميا.
وفيما يجمع من تحدثت الأخبار إليهم من الأوروبيين أن بلادهم مرتهنة للولايات المتحدة، يرى الأميركيون أن يد اللوبي الصهيوني وإسرائيل هما اللذان يسيّران بلادهم.
فالبلاد التي تتغنى بحرية التعبير، خاضعة لرقابة إعلامية مشددة ولمحرمات اجتماعية تعاقب من يحاول مساءلة إسرائيل، لدرجة أن السيدتين الأميركيتين اللتين أبدتا تعاطفهما مع الفلسطينيين مقابل إدانتهما للانتهاكات الإسرائيلية طلبتا استبدال اسميهما باسمين مستعارين، لأن «من يتفوه بأي كلمة ضد إسرائيل، ولو كانت مجرد لوم، يتهم تلقائياً بالعداء للسامية فيفتح بحقه تحقيق ويتم التضييق عليه إذا كان يدير تجارة مثلاً، كما يمنع أبناؤه لاحقاً من الالتحاق بوظائف رسمية في الدولة» كما تشرح الأميركية التي اختارت لورا بروكس اسماً لها.
ترى لورا أن «إسرائيل استخدمت القوة المفرطة والعنف الفاضح في حربها على غزة، بينما تحاصر الفلسطينيين وتعتقلهم وترفض الاعتراف بحقهم في إقامة دولة ثم تستنكر سقوط صواريخهم على مستوطناتها».
لم تكن لورا تستطيع الوصول إلى هذه الحقيقة لولا إقامتها في لبنان كما تقول. توافقها صديقتها، «ليندا دايفيس» الرأي، وتضيف شارحة: «منذ الصغر، يلقّنوننا أن اليهود هم الأصدقاء والعرب هم الأعداء. المواطنون الأميركيون لا يشاهدون سوى ما تبثه وسائل الإعلام المنحازة لإسرائيل. وهم لا يبذلون الجهد لمعرفة المزيد عبر الإنترنت مثلاً، وكأنهم لا يريدون معرفة حقيقة لا تعنيهم في موطنهم الآمن والبعيد. وهو سلوك لا أصفه بأقل من الجهل الطوعي».
اتفقت الجاليات الغربية على إدانة إسرائيل واستنكار تقاعس المجتمع الدولي عن مساءلتها. إلا أن الجميع رأوا ضرورة مساءلة العرب أيضاً عن تخاذلهم قبل الغرب، لكون «إسرائيل تستمد قوتها من وحدتها الداخلية، رغم تعدد الخلفيات الثقافية للعناصر المكوّنة لمجتمعها، بينما ضعف العرب يأتي من تشرذمهم رغم انتمائهم لخلفية ثقافية واحدة». هل من ردّ على ذلك؟