مصطفى بسيوني *جميع من يتحدث عن الموقف المصري مما يجري في غزة يميز بين الموقفين الرسمي والشعبي. وينصبّ الهجوم الشديد والنقد على الأول، بينما يحظى الثاني بالتقدير والتعاطف. ولكن هل يكفي الاتهام بالخيانة والعمالة لتفسير طبيعة الموقف المصري الرسمي؟ الواقع أن حجم الجريمة الصهيونية في غزة لا يترك خيارات كثيرة لوصف المواقف المختلفة من المذبحة. ولكن الحديث عن دعم صمود غزة والحفاظ على خيار المقاومة يستدعي أكثر من توجيه التهم والتشهير السياسي. وبداية، لم يكن الموقف المصري الرسمي أقل وضوحاً من قبل تجاه قضايا المقاومة والتحرر، فهو كان رائداً في التطبيع مع إسرائيل، وكان المروّج الرئيسي لمشاريع التسوية الأميركية الإسرائيلية، واتفاقيات «الكويز»، وتصدير الغاز، وتصدير الحديد والاسمنت، والسياحة الإسرائيلية في سيناء، والضغط على فصائل المقاومة، وتسويق الخطط الأميركية... كلها كانت سياسات معلنة للنظام المصري. فلا مجال للاندهاش من مواقفه، سواء بخصوص الحملة الإعلامية على المقاومة، أثناء الهجوم الإسرائيلي، بهدف الضغط عليها، أو غلق منفذ رفح، أو قمع التظاهرات المتضامنة مع غزة. وهو لم يكن مختلفاً تجاه العراق، سواء في عاصفة الصحراء التي شارك النظام فيها عسكرياً مع القوات الأميركية، أو أثناء الحصار المدمر لمدة اثني عشر عاماً، أو في عملية الغزو في 2003 التي فتحت فيها قناة السويس للقوات الغازية ـــــ لاحظ أن فتح منفذ رفح لأسباب إنسانية أصعب من فتح قناة السويس لأسباب عسكرية!
لقد اختار النظام المصري منذ أكثر من ثلاثين سنة الانخراط في المشروع الأميركي والاندماج في السوق العالمية. وترتبت خلال ثلاثة عقود حزمة من المصالح السياسية والاقتصادية لن تهزها المذابح المتتالية سواء في فلسطين أو العراق أو أي مكان آخر.
ثم هل يمكن مطالبة النظام المصري بإبداء درجة من التعاطف مع ضحايا غزة أكثر من تلك التي يبديها عادة مع الضحايا المصريين؟ لقد حكمت المحكمة ببراءة صاحب العبارة الغارقة عضو لجنة السياسات بالحزب الحاكم، والمقرّب من النظام، رغم تقرير فني يؤكد عدم صلاحية العبارة للإبحار، وكان عدد ضحاياها يقارب حجم عدد شهداء غزة. وتعامل الأمن بعنف غير مبرر مع أهالي الضحايا. كذلك أهالي الدويقة الذين انهار عليهم الجبل ومات منهم العشرات ومن نجا من الجبل لم ينج من قوات الأمن. المذبحة التي ارتكبها النظام المصري نفسه في حق اللاجئين السودانيين أثناء فضّ اعتصامهم السلمي في كانون الأول/ ديسمبر 2005 لا تنمّ عن نزعات إنسانية لدى النظام، فما الذي سيفجّر هذا التعاطف اليوم؟
فالنظام «المعتدل» الذي لا يرى في المقاومة طريقاً للتحرير، وفي أفضل الأحوال سيجد فيها إحدى وسائل دعم المفاوضات عندما تكون تحت السيطرة، سيشعر بالخطر إزاء المقاومة عندما تقدم نفسها بديلاً حقيقياً قادراً على إحراز تقدم وتحقيق انتصارات. فالمقاومة تمثل خياراً منافساً للخيار «المعتدل»، وخاصة عندما تأخذ دول أخرى مثل فنزويلا وبوليفيا وتركيا مواقف اعتبرها النظام المصري مستحيلة، وغير قابلة للنقاش، ورمى من طالبوا بها بالطيش والمغامرة والمزايدة على «الموقف الوطني». هكذا يبدو صمود المقاومة الفلسطينية مؤلماً للأنظمة «المعتدلة» وتنكشف دعايتها كلها أمام مواقف آتية من وراء المحيطات.
الموقف الشعبي المصري يبدو أكثر تعقيداً من الموقف الرسمي. فالأخير تحركه الحسابات ولا يلتفت كثيراً «لابتزاز المتشددين ومزايداتهم». بينما الموقف الشعبي معبّأ بكل مشاعر الغضب والتعاطف، تتفاعل فيه المشاعر الوطنية والقومية والدينية والإنسانية، لتخلق غضباً بلا وجهة محددة، يرتطم بآلة القمع الرسمية قبل أن يصل إلى أي مكان.
الانفعال بالأحداث والسخط متوفّران، ولا يمكن تفادي رؤيتهما في أي مكان. وما يحدث من فعاليات تضامن واحتجاج لا تعبر عن حجم الغضب الفعلي. التظاهرات التي اندلعت في العاصمة والمحافظات عبرت عن طبيعة الموقف الشعبي، لكنها لم تشكل ضغطاً حقيقياً على النظام لاتخاذ موقف مختلف، مثل قطع العلاقات مع إسرائيل، أو وقف تصدير الغاز، أو فتح منفذ رفح، أو حتى الاحتجاج على القصف الحدودي. لقد تحركت التظاهرات الغاضبة بناءً على دعوة القوى السياسية المختلفة، وكانت أكبرها تلك التي دعت إليها جماعة الإخوان المسلمين، وكانت من المرات النادرة التي يشارك المرشد العام للإخوان المسلمين في التظاهرات بنفسه. والنتيجة الأبرز لهذه التظاهرات والقوافل التي توجّهت إلى رفح هي الفصل بين الموقف الرسمي والموقف الشعبي في مصر. ولكن تحولها إلى ضغط حقيقي على النظام يضطره لاتخاذ مواقف مختلفة ما زال أمراً بعيداً. لم يكن الرأي العام المحلي أحد عوامل اتخاذ القرار في يوم من الأيام في مصر. فمن ناحية لا ينعكس الرأي العام في صناديق انتخاب عن طريق انتخابات حرة ونزيهة تستبدل من يرفضه الرأي العام بآخر يرضى عن مواقفه. ومن ناحية أخرى يجد النظام عوامل بقائه واستقراره في ارتباطه بالمشروع الأميركي. لذا فليس الرأي العام المحلي، غاضباً كان أو راضياً، هو ما يسعى النظام المصري لكسبه. والحالة التي يمثل فيها الرأي العام المصري ضغطاً جدياً يبعث على القلق لدى النظام، هي عندما ينذر بانفجار يهدد استقراره، ولا تقوى آلة القمع على التصدي لها.
لم يصل الغضب الشعبي إلى الدرجة التي يمثل فيها تهديداً للنظام في مصر، لا بسبب حجمه، ولكن بسبب ما عانت منه الحياة السياسية المصرية دائماً من افتقاد للتنظيمات الشعبية. من الغريب حقاً أن تتسم حركات التضامن مع غزة في بعض الدول الأوروبية بدرجة أعلى من التنظيم والكفاءة، وأحياناً الحجم من تلك التي في مصر وبعض الدول العربية، وخاصة تلك التي لا تكون فيها حركة التضامن تحت رعاية النظام الحاكم أو بموافقته. فلم نرَ في مصر تظاهرات تتوجه إلى السفارة الإسرائيلية في القاهرة كتلك التي شهدتها لندن وبعض العواصم، ولكن حركة التضامن النرويجية التي لا يحركها أحد أنظمة «الممانعة» كانت الأكثر جذباً للانتباه. فشركات النقل أوقفت كل وسائلها في توقيت واحد لإعلان التضامن مع غزة، أما اتحاد العمال فقد قرر صرف أجر نصف يوم لأعضائه الذين يشاركون في تظاهرات التضامن مع غزة، وهو إجراء يحمل دلالة هامة جداً. فصناديق النقابات تخصص لتعويض العمال عن أيام الإضراب، ما يعني أن اتحاد العمال اعتبر التظاهر من أجل غزة مثل الإضراب من أجل مطالب عمالية. هل يوضح هذا طبيعة النقص الفادح في الواقع المصري (بينما هناك غاضبون بالفعل من الجرائم الصهيونية والموقف الرسمي المصري على السواء).
ولا شك أن هجوم التظاهرات على السفارات المصرية في عدة دول كان مؤلماً، وخاصة لأولئك الذين تذكروا استقبال عبد الناصر في السودان وحمل الجماهير لسيارته في دمشق حتى بعد هزيمة 1967. ولكن إلى أين يذهب هذا الغضب؟ بالطبع هو وضع حداً فاصلاً أمام العالم بين الموقفين الرسمي والشعبي في مصر، ولكن ليس ثمة نقابة تقود إضراب عمال شركات الكويز مثلاً، أو عمال البترول والغاز... حتى وقف التصدير لإسرائيل أو مقاطعة عمال الموانئ والمطارات للسفن والطائرات الإسرائيلية أو مقاطعة عمال السياحة للأفواج الإسرائيلية.
يصدق ذلك أيضاً على الأحزاب والقوى السياسية، سواء الرسمية أو غير الرسمية. فإما أنها متورطة في حسابات معقدة مع النظام، أو أنها أضعف من استيعاب طاقة الغضب في الشارع. لذلك، لا يرقى الغضب الشعبي في مصر ـــــ حتى الآن ـــــ إلى الدرجة التي يمثل فيها ضغطاً جدياً على النظام لتغيير مواقفه. لقد كشفت مأساة غزة عمق الفراغ في الشارع المصري كما كشفه غزو العراق من قبل، عندما احتل عشرات الآلاف أكبر ميادين العاصمة احتجاجاً على الغزو وللمطالبة بمنع القوات الأميركية من المرور من قناة السويس، دون جدوى. قصة أخيرة قد توجز الأمر: في 1947، كانت مصر الملكية تحت الاستعمار البريطاني، ولم تكن قناة السويس تحت السيادة المصرية، ورغم ذلك نظمت نقابات العمال إضراباً في مدن القناة واعترضت بالمراكب الصغيرة سفينة حربية هولندية عملاقة كانت متوجهة لقمع حركة التحرر الوطني في أندونيسيا. مر أكثر من ستّين عاماً على هذا التاريخ، ولم تعد مصر ملكيّة ولم تعد محتلّة، وبسطت سيادتها على القناة، ولكن لم تعد هناك منظمات سياسية شعبية مستقلة.
* صحافي مصري