strong>سلام الكواكبي *من خلال مساهماتهم الشفهية أو الكتابية في المؤتمرات واللقاءات الدولية، يعكف الباحثون والدبلوماسيون السابقون من الدول الغربية عموماً، ومن الولايات المتحدة خصوصاً، على استخلاص العبر من الآثار السلبية للمرحلة البوشية سياسياً واقتصادياً وحتى بيئياً. فهم، على مختلف مشاربهم السياسية، يحللون الأخطاء ويحددون المسؤوليات ويقترحون أفضل السبل برأيهم لمواجهة العواقب الوخيمة لفترة ولايتي جورج بوش. ولمحاولة الخوض في ذلك بطريقة عقلانية وموضوعية، يلجأون إلى «زملائهم» من المناطق التي عانت، وما زالت، من نتائج هذه السياسات، والتي تدفع مؤسساتها المدنية واقتصاداتها وشعوبها أثماناً باهظة. فينبري أولئك الخبراء، والعرب على رأسهم، إلى مشاركة زملائهم في النقاشات وفي تفحّص الأمور، كلٌ على قدر طاقاته العلمية والتحليلية ذات المستويات المتفاوتة. ويستبشر «الغربيون» بمساهمة أقرانهم من «الجنوب» ليساهموا معهم في طرح السيناريوهات القابلة للتطبيق، والتي من شأنها أن تساعد على خلق أرضية مشتركة للتفاهم ولإيجاد مخارج نجاة من المصائب القائمة. وتتعزّز هذه المؤتمرات واللقاءات بقدرات عملياتية رفيعة المستوى وعالية التكاليف تدغدغ حتماً احتياجات سيكولوجية لدى عدد كبير من المشاركين من الدول التي يستحسن وصفها بأنها في طور النمو، وإن لم تجد إلى ذلك وسيلة فاعلة بعد. تجتمع العناصر إذاً لخلق فضاء واسع للحوار والتبادل والنقد والنقاش، وكل ما يقدر عليه العقل البشري من وسيلة لتطوير الوعي ولتواصل الفكر. وتعتبر استفادة طرفي المعادلة عالية جداً نظرياً، إن أحسنّا بالطبع استغلالها، ليس فقط للتمتع بمحاسن الفنادق ذات النجوم الكثيفة والمناظر الخلابة، بل أيضاً لتكوين شبكات معرفية تبادلية تساعد على تأسيس أو دعم الفهم، وصولاً إلى التفاهم أحياناً.
وفي النتائج الفعلية، يجد الحضور العربي شكلين لا ثالث لهما إلا في ما ندر، وكلاهما ينبئ بأفقٍ مسدودٍ حتى الانكماش. فالشكل الأول يعبّر عنه حاملو الرايات القومجية البعيدة عن القومية الحقيقية، فيطيحون أية فرصة للاستماع إلى الآخر، دون القبول بطروحاته، مخوّنين بالتالي كل من لا يؤمن بأحكامهم الجاهزة والمقولبة والشعبوية، ويصبغون أحياناً على مواقفهم، وحسب الظرف، بعداً دينياً لكسب المشاعر المترددة ولركوب الموجات العصابية.
في المقابل، هناك شكل جديد ومتجدّد وكثيف الحضور والبروز، يعبّر عنه الليبراليون الجدد كما يحب بعضهم أن يسمّى، وهم ينبرون إلى المزايدة على كل ما تنبس به شفاه الغربيين، معتقدين بالتالي بأنهم في هذا يكسبون التعاطف مع ما يحملون من أفكار (أو لا أفكار)، ولا يحصدون بالنتيجة إلا العطف لضحالة حججهم ولتبرّم الآخر، مهما اختلفت مشاربه، من مواقفهم مهما انبطحت. ويصح فيهم القول بأنهم ملكيون أكثر من الملك.
وفي الفترة الأخيرة، وجدت هذه الفئة ضالّتها في الدفاع عن رصيد سنوات الضياع الشية، وإن لزم الأمر مواجهة أهل جلدته وحتى أعضاء حزبه الذين يحاولون تطوير خطاب نقدي موضوعي، آخذين بعين الاعتبار خسائر أميركا السياسية والاقتصادية والعسكرية التي سجلتها السنوات القليلة الماضية، مضيفين إليها أيضاً وبكثير من الحياء، فقدان البعد الأخلاقي الذي كانوا يعتقدون بوجوده في السياسة الخارجية لبلادهم التي يحبون. فينبري لهم «المتبوّشون» العرب ليسردوا باللغة الخشبية نفسها التي يمتطيها أهل «الممانعة» محاسن الشيخ الجليل بوش الابن، ومآثره في نشر الديموقراطية والسلام في العراق وفي أفغانستان، ورقصاته بالسيف مع زعماء الاعتدال العربي الأشاوس، وإيمانه الراسخ الذي لا يتزعزع بوجوب قيام دولة فلسطينية مستقلة، وبالتالي، فكل نقد له، حتى من أترابه، هو ماركسية جاهلية تعبّر عن طموحات شمولية تحمل أفكاراً بائدة حان الوقت لتجاوزها. وليس الجانب الهلامي في هذا الطرح ما يبعث على الغثيان، لأنه رأيٌ والرأي مهما انبطح، لا يجب أن يشكّل عقبة أمام نقاشه ومواجهته برأي آخر. ولكن المزعج، لتلطيف العبارات، هو الجانب النفساني لدى أصحابه، لأن كلامهم حمّال أوجه، منه ما يخرج في القاعات، ومنه ما يعبر عنه في الأروقة، ومنه ما ينضج على موائد الطعام. ولا يعيبهم تناقض ولا يخجلهم تفاوت. وإن سألهم الآخر عما يريدون نقله من نصحٍ إلى الإدارة الجديدة في واشنطن، لا يمكنهم أن يدلوا «بسطلهم» إلا عبر التعبير عن سخطهم وقرفهم واشمئزازهم وإدانتهم للتصرف غير الحضاري وغير المهذب لصاحب الحذاء الرمزي الذي لطم أيام بوش الأخيرة في سدة الحكم. هذا، في وقت تخرج علينا صحيفة لوموند الفرنسية «الرصينة» بمقالة تحليلية حول الرمزية الإيجابية وذات الثقل الكبير لهذا الحدث وأبعاده، فهل تراها حزباً إلهية هي الأخرى؟
أما إذا اقترب الحديث عن حركة حماس وعن حزب الله، فترى الغربيين يأسفون لنسف العملية الانتخابية الفلسطينية، ولعدم صدقية ديموقراطية انتقائية لا تقبل بخيارات الشعوب إن هي لم تناسب القوالب الجاهزة لرؤيتهم نحو المنطقة. ويطرحون في هذا السياق سيناريوهات مختلفة لعودة الحوار مع حركة حماس التي تشكل برأيهم قوة سياسية ذات أهمية، وقد جرى انتخابها لفشل أو لفساد البدائل، دون أن يمنعهم ذلك، ويمنعنا، عن نقد تجربتها في الحكم وعقائديتها المتحجرة، منددين بالتالي بإقصائها وبتهميشها وبدفعها أكثر نحو التشدد. فيخرج لهم أعراب اللحظة، ليمتطوا خطاباً متعلمناً استنكفوا عنه عندما لم يناسب مصالحهم، فيهاجمون الغرب المتصالح مع حماس، معتبرين بأنه في هذا يدعم الأصولية. حتى إن أحدهم، رفض تشبيه دبلوماسي سويدي لقبول الغرب بمنظمة التحرير بعد اعتبارها منظمة إرهابية بالقبول المنتظر لحماس على اختلاف المقاييس والأبعاد. وقال إنّ المنظمة كانت حركة نضال وطني يقودها بطل وطني، وأما حماس فهي مجموعة إرهابية يقودها رجال عصابات. وبالتالي، أُحرج الصديق السويدي لِما ووجهت به دعوته من رفض عربي «شرس». وإن تعرض أحد الغربيين إلى حزب الله كقوة سياسية ذات أهمية على الساحة الداخلية اللبنانية، دون الخوض في أبعادها العقائدية، واجهه بشدة لبناني طارحاً ارتباطاتها الإقليمية وعدم استقلاليتها، ليشيد في الوقت ذاته بأمراء الحرب الذين تخرج من عيونهم عصارات الديموقراطية والتسامح. وحتى إن إخواننا العرب أضحوا «يأسرلون» أحياناً لفظهم، فتصبح حماس «خماس»، وكذلك «خزب» الله، عوضاً عن حزب الله، فالكلام بمخارج الحروف هذه «بيّاع» أكثر وذو جاذبية إعلامية على ما يظنون.
أما إيران، فهي الشيطان الرجيم وهي ناشرة المتاعب والأحقاد. وهنا، الكلام ليس للغربيين حتماً، فهم أذكى وأرهف من التعميم و«الشطح»، وإنما أعرابنا الذين لا يريدون البتّة أن يسمعوا كلاماً يتحدث عن عدم صدقية الطروحات الغربية في ما يتعلق بالنووي الإيراني لعدم شموله النووي الإسرائيلي. فالغرب عندما يقارن بهذه الطريقة، فهو «يقلب المفاهيم»، وبالأحرى الموازين، فيجب ترك الشأن الإسرائيلي على جانب، ومواجهة الخطر الإيراني الأكبر وإعداد ما استطعتم إليه من قوة ومن أسلحة صدئة لرميها بين كثبان الرمال المبرّدة.
يمكن أن تكون هذه الموجة مربحة أحياناً من الوجهة المادية، أو أنها تعوّض عن عقدة نقص ما تجاه الآخر ومحاولة مستميتة لاستعطافه، أو أنها ترجمة لقناعة إيديولوجية لا تختلف كثيراً عن نقيضها، أو أنها انتقام شخصاني ناجم عن تجربة مجهضة في الجانب الآخر من المعادلة. ولكن هناك تفصيل أخاله هامّاً جداً كثيراً ما يفوت أصدقاءنا، كتّاباً وصحافيين ومثقفين وأكاديميين، من ركّاب هذه الموجة الجديدة، وهو يرتبط بعبارة الاحترام وما يدور في فلكها. فعلى الرغم من تدثرهم بالغربي على أنواعه، فهم لم يفهموا حتى الآن بأنه، وحالتهم كذلك، لا يحمل لهم أي نوع من الاحترام.
في اللغة الفرنسية اليومية، تعبير قاسٍ وشبه عنصري إن لم يفهم محتواه، وهو عربي الخدمة (Arabe de service)، ويطلق على من تشكل لهم أصولهم العربية عقدة تدفع بهم إلى المزايدة والمبالغة في إبراز ما يعتقدون بأنه ولاءٌ يساعدهم في الاندماج أكثر في المجتمع الفرنسي. الموجة الجديدة إذاً تؤسس لجيلٍ من «أعراب الخدمة» في الإطار العربي الداخلي في وقت تتقلص فيه خدمة العرب إلى أقصاها.
* باحث سوري