ياسين تملالي*ألمّت بعبد العزيز بوتفليقة حمّى التدشينات والاستفسار عن أحوال الرعيّة في أقاصي البلاد وأدانيها، ما يعدّ إيذاناً بقرب إعلانه الترشح لعهدة رئاسية ثالثة في نيسان/ أبريل 2009. ويبدو هذا الإعلان مسألة وقت، فكل الدلائل تشير إلى أنه سيستجيب لدعوات «الشعب» الملحّة لبقائه في السلطة، وأهمّ هذه الدلائل أن المسيرات «العفوية» المطالبة بتنصيبه زعيماً أبدياً للجزائر نظّمت من طرف مسانديه المحترفين. ومن الواضح أن أغلب أطراف النظام وافقت على استمرار الرئيس الحالي في الحكم، بالرغم من مرضه العضال وما يثيره تفرّده بالقرار من خوف من إلغاء دور المؤسسة العسكرية السياسي. المشكلة حالياً بالنسبة إليها هي إضفاء شيء من الصدقية على اقتراعٍ نتائجه محسومة سلفاً لمصلحة «المرشح الرسمي». وأهم وسائل تحقيق هذه الصدقية المشاركة الشعبية في الانتخابات وإقناع بعض التيارات بخوض غمارها، أملاً في أن يصطبغ اصطفاء بوتفليقة من قبل أقرانه بصبغة المعركة الديموقراطية الحامية الوطيس.
وبسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية والأمنية، من المتوقع أن يواصل الاهتمام الجماهيري بعمليات النظام الانتخابية تراجعه، ما سيحتّم على وزير الداخلية، نور الدين زرهوني، نفخ نسب التصويت مرة أخرى وتسخير وسائل الإعلام الحكومية لحملة بائسة عن «عرس الديموقراطية الشعبي». من المحتمل إذاً أن تُزوَّر نسب المشاركة في الانتخابات القادمة، إلا أن لـ«مخيّلة التزوير» حدودها المعلومة، فليس بإمكانها أن تبتدع من عدم، مرشّحين ذوي وزن، ولا أن تقنع الرأي العام بأن بعض منافسي بوتفليقة الكرتونيين هم عمالقة السياسة الجزائرية الجدد.
وحتى الساعة، وباستثناء الجبهة الوطنية الجزائرية، لم يبد أي حزب سياسي عزمه على منافسة بوتفليقة. وبالرغم من صعود نجمها نسبياً في السنوات الأخيرة، تبقى هذه الجبهة بنت النظام (هي انشقاق لـ«منظمة أبناء الشهداء» الرسمية جداً)، وإن كانت ابنته العاقّة الجاحدة لنعمه. من هذا المنظور، فإن ترشح رئيسها، موسى التواتي، لا يكفي لتقديم الانتخابات على أنها مسابقة مفتوحة مجهولة النتيجة. ومقابل إعلان الجبهة الوطنية الجزائرية خوضها الانتخابات، دعت جبهة القوى الاشتراكية (التي يقودها حسين آيت أحمد) إلى مقاطعتها، ما يعني أن جزءاً معتبراً من ناخبي المنطقة القبائلية والجزائر العاصمة سيشاهدونها من موقع المتفرّج الساخر، مع كل ما يعنيه ذلك من استمرار الشرخ بينهم وبين السلطة المركزية.
حزب العمال، بقيادة لويزة حنون، كان يمكن أن يكون هو الذي يحوّل اقتراع نيسان إلى صراع بين اليمين واليسار والوسط، بين الليبرالية والاقتصاد المخطط، بين الانغلاق الشوفيني على النفس وروح التضامن العالمي مع العراق وفلسطين وفنزويلا. لكن هذا الحزب، منذ أن صوّت ـــــ مع جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي ـــــ على تعديل الدستور بما يلغي تحديد عدد العهد الرئاسية، أصبح تقريباً في خانة التنظيمات البوتفليقية، ولا ينفعه كثيراً لتلافي هذه السمعة مواصلته التنديد بسياسات الحكومة الاقتصادية.
وكان يمكن أن تكون حركة مجتمع السلم (حمس، تيار الإخوان المسلمين) الحزب الذي يعطي الانتخابات بعض الصدقية. لكن هذه الحركة أكملت تحوّلها إلى أحد أعمدة السلطة بالنظر إلى مشاركتها في الحكومة وعضويتها النشطة في التحالف الرئاسي (مع جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي) ومساندتها لتعديل الدستور بما يتيح لبوتفليقة الترشح لعهدة ثالثة. ولن يكون من المعقول أن تقدم مرشحاً للرئاسيات بعدما أبدت كل هذه الاستماتة في إثبات عبقرية «برنامج فخامة الرئيس».
وكان يمكن أن تكون حركة النهضة (الإخوان المسلمين) الحزب المفقود في معادلة النظام الانتخابية، لكنها أضعف من أن تشارك في انتخابات مهما كانت، فهي لم تفق بعد من العملية الجراحية التي أجرتها لها الاستخبارات في 1999 بهدف تغليب مساندي ترشيح بوتفليقة على معارضيه. وهي منذ أن غادرها عبد الله جاب الله مكرهاً ليؤسس حركة الإصلاح، أشبه بقوقعة يابسة فارغة.
وكان يمكن أن تكون حركة الإصلاح ذلك الحزب، لكن هل من صدقية لها بعدما قبل أغلب قادتها دخول لعبة الاستخبارات، فأزاحوا عبد الله جاب الله من على رأسها بالطريقة نفسها التي أزيحوا بها هم وإياه من قيادة النهضة؟ هل من صدقية لها بعدما التحقت بغريمتها في بيت الطاعة الرسمي؟
النظام في ورطة كبيرة، وهامش مناورته شديد الضيق، بعدما استهلك جزءاً كبيراً من الطبقة السياسية بكل تلوناتها. ما العمل؟ تشجيع سعيد سعدي، رئيس التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، على الترشح؟ نعم، لكن مشاركته في الانتخابات لا تكفي لإضفاء الشرعية عليها، وذلك لسببين. السبب الأول هو ماضي حزبه المساند لبوتفليقة في بداية عهده، والثاني احتمال أن ينتج من ترشّحه ـــــ في غياب قوى أخرى ـــــ استقطاب ثنائي ذو طابع «جهوي»، فكما أن بوتفليقة يحيط نفسه أساساً بأبناء منطقته، تلمسان، فإن صورة الجهوية لصيقة جداً بسعيد سعدي، ما يفسّره ميلاد حزبه من صلب الحركة الثقافية الأمازيغية وانغراسه أساساً في المنطقة القبائلية (ولايات تيزي أوزو وبجاية والبويرة). هذا دون الحديث عما لاستقطاب ثنائي كهذا من أبعاد رمزية، تعود بالذاكرة الجزائرية إلى صيف الاستقلال، في 1962، عندما واجهت «مجموعة تلمسان» (الهادفة إلى تسليم السلطة إلى الجيش تحت غطاء بن بلّة المدني) بـ«مجموعة تيزي أوزو» الرافضة للحكم العسكري. ما العمل؟ السماح لعبد الله جاب الله بالترشح؟ نعم، ولكن لإشراكه في الانتخابات في غياب شخصيات أخرى سلبياته الكثيرة، ومنها تحوّله إلى المرشح الحقيقي الوحيد في مواجهة بوتفليقة، ما قد يحدث ديناميّتين خطيرتين: استقطاب ثنائي جديد بين السلطة والحركة الإسلامية، وتجمهر كل الإسلاميين الناقمين على تنظيماتهم (حمس، النهضة والإصلاح) حول هذا السياسي الذي لم توقع به الوسطية بعد في أحضان الجيش.
حزب العمال، حركة مجتمع السلم، النهضة، الإصلاح، وغيرها كثير: تنظيمات أراد بوتفليقة الاستفادة من شعبيتها النسبية، فاستمالها أو ضمّها إليه. ولكنها ما إن حُسبت على سراياه حتى فقدت انغراسها الجماهيري، ولم يعد يمكنه استغلالها لتلميع صورته. هذا هو النظام الجزائري، يستهلك أصدقاءه الواحد تلو الآخر ليصل أخيراً إلى مآله المحقق: أن يظهر للعيان على حقيقته ويجاهر بما يضمره من رغبة في حكم البلاد بصورة دكتاتورية مباشرة، دون برلمان ولا أحزاب ولا صحافة ولا نقابات.
* صحافي جزائري