هشام نفاع*يمكن للجيوش أن تقصف وتدمّر وتقتل وتفتك وتقترف شتّى البشاعات. لكن هذا لا يشكل أيّة ضمانة للانتصارات. ما هو الانتصار؟ أهو جرائم الإبادة أم مراكمة جرائم الحرب في السجلّ العسكريّ؟ أهو قصف المدارس والمساجد والمستشفيات، وتمزيق أجساد الأطفال وأمهاتهم وآبائهم بأحدث الصواريخ؟ أهذه انتصارات؟ هذه جرائم قتل جماعية. الجيوش أداة لتحقيق إنجازات ونقاط سياسية واقتصادية وعسكرية. حين يقف جيش مقابل جيش ويدحر أحدهما الآخر، تفرض دولة الجيش المنتصر شروطها التي تخدم مصالحها. لكن الأمر مختلف تماماً في حالة جيش يحاول كسر مقاومة ضد احتلال يمارسه الجيش نفسه. وسيختلف أكثر حين لا يفرّق هذا الجيش بين مسلحين ومدنيين. وسيختلف أكثر فأكثر حين يكون الجيش نذلاً فيتردّد في مواجهة المقاتلين ويختار النيل منهم عن بُعد غير آبه بقتل العزّل. لقد اقترف الجيش الإسرائيلي بقرار وأوامر من حكومة إسرائيل جرائم بشعة تجعل القلب والضمير ينتفضان. لم يأتِ كل هذا القتل لأجل القتل. فالقتل العشوائي جاء وسيلة لفرض إملاءات سياسية وعسكرية. وهو ما لا يقلّل من إجراميّة الفعل. بل على العكس، فضحيّة القتل ليس هدفاً فقط بل وسيلة أيضاً. يجري قتل الضحية كفرد بوصفه هدفاً وقتل إنسانيته عبر جعله وسيلة. هذا هو الانحطاط الإسرائيلي باختصار. أحد العسكريين الإسرائيليين عرّف الهدف كـ«خلق مناخ أمني جديد» يقيّد حماس (اقرأوا: المقاومة). وآخر تحدّث بلغة المافيا عن «جباية ثمن باهظ» مقابل كل نشاط للمقاومة. إذاً، لقد أرادت إسرائيل على المدى القصير ضرب المقاومة وإفقادها قدرتها على التحرّك. ولكنها فشلت، ومرحى لهذا الفشل. وأرادت تأليب أبناء الشعب الفلسطيني وبناته على المقاومة عبر الفتك بالمدنيين. ولكنها فشلت، ومرحى لهذا الفشل. أما على المدى الأبعد، فهي تهدف إلى تفصيل التسوية السياسية مع الشعب الفلسطيني على مقاس الحذاء العسكري الإسرائيلي، عبر كسر روح المقاومة وإفراغ اليد الفلسطينية من القدرة على الرفض الفعّال لإملاءاتها الكولونيالية. (متى سيفهم الرئيس أبو مازن هذه الحقيقة البسيطة، بعيداً عن الفئويّات؟!).
يجب التوقّف والقول: إن جميع المزاعم عن حماية الجنوب الإسرائيلي من القذائف يدوية الصُّنع، هي كذب ونفاق رسميّان. فقد انخفضت وتيرة إطلاق القذائف حتى الصفر تقريباً طوال شهور التهدئة الستة منذ حزيران 2008. أما ما أشعل النار مباشرة فلم يكن سوى العملية الإسرائيلية المبرمجة والمخططة والمبيّتة يوم الرابع من تشرين الثاني 2008، والتي قتل الجيش فيها ستة مقاتلين فلسطينيين داخل القطاع. وهي تُضاف إلى شهور متواصلة من الحصار ورفض فتح المعابر التي كان يجب أن تُفتح بموجب اتفاقية التهدئة، بعد عشرة أيام من توقيعها. ويمكن الآن القول بكثير من الثقة، إن الحكومة والجيش الإسرائيليين أجازا تنفيذ عملية الرابع من تشرين الثاني بغية إعادة إشعال الوضع، تحضيراً لتنفيذ عملية «الرصاص المسبوك». فعملية بهذا الحجم يستغرق إعدادها أشهراً، ويمكن الافتراض أنها كانت جاهزة أمام متّخذي القرار وكان لا بدّ من القيام باستفزاز عسكري لتبرير تنفيذها. وهذا ما كان. المؤسسة العسكرية سرّبت للصحافة فجأة أنها معنيّة بـ«وقف فوري للعمليات». ووزير الحرب يبحث عن مخرج ملتوٍ فيتحدّث عن «وقف إطلاق نار إنساني لمدة أسبوع». وموظّف كبير في الخارجية الإسرائيلية يقول إن ضغطه يرتفع كل صباح أمام الصورة البشعة لإسرائيل في التقارير الصحافية العالمية. وسنظلّ نسأل: ماذا حققتم وماذا أنجزتم يا مجرمي الحرب سوى اقتراف الجرائم وزيادة تشويه صورتكم في العالم؟
لم يحقق مجرمو الحرب أي هدف سياسي أو عسكري. لقد قتلوا، لكنهم فشلوا.
لم تفشل المؤسسة الإسرائيلية في تحقيق أهدافها لأنها تفتقر للقوّة. فهي متخمة بها إلى درجة خطيرة. لقد فشلت لأن المقاومة لم تنكسر ولم تستسلم ولأن هؤلاء المقاومين خرجوا من جرح شعبهم وليسوا غرباء عن همومه ومصالحه وقضاياه. إنهم أبناؤه. لقد فشلت تلك المؤسسة لأن الشعب الفلسطيني هو خلاف ما يتوهّم جنرالات البطش والقتل. أولاً لأنه شعبٌ بحقّ، ولأنه مُصرّ على التحرّر بكرامة.
لقد فشل الرهان الإسرائيلي لأن هؤلاء المتغطرسين لا يُحسنون القراءة. إنهم يقرأون أبجديّات غريبة عن أبجديات الشعوب وحقوقها؛ يردّدون كببغاوات غبية عقيدة جورج بوش وعصابته الأميركية عن «محاربة الإرهاب»؛ ويتحدثون باستعلاء كولونيالي أبيض مقيت عن «إرهابيين»، فيما هم يقترفون أبشع صنوف إرهاب الدولة المنظّم. في عمق هذه العقليّة والممارسة التي تُنتج كل منهما الأخرى يكمن جهل مطبق. إنه الجهل بمفاهيم وقيمٍ أساس، مثل تحرّر الشعوب، مقاومة الاحتلال، والكرامة الوطنية. وهي مفاهيم لن تنال منها شتى صنوف الإجرام السياسي المنظّم مهما توحّشت. لأنها مفاهيم وقيم «مسبوكة» عميقاً في روح التحرّر الإنسانية. ولنا في التاريخ عِبر، ولنا في الشعوب عِبر، ولنا في الشعب الفلسطيني صانع مآثر الصمود عِبر.
لم يأتِ جهل المتغطرسين الذي يسيطر على عقليتهم وممارستهم من فراغٍ بالطبع. إنه نتاج ظروف تاريخية وسياسية محددة. ولنسمِّ الأمور بأسمائها: هناك شبه كبير في الظروف التي أنشأت إسرائيل والولايات المتحدة. في الحالتين أقيمت مؤسسة الدولة من قبل مهاجرين على أنقاض شعب الوطن الذي تم تمزيقه وتهجيره بمعظمه. لم تعش الدولتان تجربة تحرّر، بل قامتا على مسرح جريمة. في أنظمة كهذه قد يتمادى المتغطرسون في الظنّ أنه يمكن اغتيال روح التحرر الإنسانية بالسلاح، لكن الأكيد أنهم سيفشلون. سيبقون على ما هم، قتلة، مجرمين وفاشلين. بينما سيظلّ المستقبل للشعوب المصرّة على التحرر. وسيظلّ الشعب الفلسطيني على موعد مع حريته مهما توحّشت مؤسسة إسرائيل الكولونيالية.
* صحافي فلسطيني