حدّثوا الأطفال عن غزة»، هذا ما يقوله المهتمون بالشأن التربوي. لكننا إذا ذهبنا لنكلمهم بعد مرور أكثر من عشرين يوماً على العدوان فسنُفاجأ بردودهم وبأسئلتهم... وقد نعجز أحياناً عن الرد، وخاصة إذا ما كرروا بغضب وببراءة أيضاً: «لماذا لا نتحد ونهاجم كلنا إسرائيل؟»
جانا رحّال
تدخل إلى منزل آل فياض، يستقبلك الابن الأصغر نديم (4 أعوام) لثوانٍ، ليعود إلى ألعابه. يبدو الطفل سعيداً مشغولاً بعالمه، لكنك ستُفاجأ إذا سألته: «هل تعرف غزة؟» لأنه سيجيبك فوراً: «بلى، هناك يبكي الأطفال لأن إسرائيل مش منيحة»، ليلتزم الصمت بعد هذه الجملة القصيرة. نديم سأل عن غزة عندما شاهد دموع والدته، فاستفسر عن سبب بكائها، والغريب أنه منذ ذلك الوقت لا يطرح الأسئلة.
نديم ليس حالة استثنائية. أطفال كثر يعرفون غزة، ويعرفون ما يتعرض له أقرانهم فيها. زينة نجار (7 أعوام) تتابع نشرات الأخبار، وتنتظر الأناشيد والأغنيات التي تتغنى بفلسطين، وتكرر أمام أصدقائها: «يا حرام الأولاد عم يبكوا، هدموا لهم منازلهم».
«بالروح بالدم نفديك يا غزة» شعار يردده الصغير جاد صندقلي كلما سُئل عن فلسطين، الصبي الذي لم يبلغ عامه الثامن بعد، لكنه يعرف الكثير عن غزة، ينقل ما أعلمته به شقيقته الكبرى ناتالي، وإن كان مقلاً في الكلام، إلاّ أنه يعلن أمام سائليه أن «إسرائيل تقصف غزة، تضربهم بالصواريخ، والناس يموتون، ولا أحد يقدم لهم المساعدة».
دانا رحال (8 أعوام) تشعرك بأنك أمام صبية مناضلة، تعرف الكثير عن شؤون السياسة، إنها كفتاة ناضجة تشعر بمسؤولية كبيرة، وتريد أن تمد يد المساعدة لجرحى غزة وأطفالها. تبدأ دانا الكلام بتحليل «استراتيجي» ينطلق من حرب تموز 2006: «نحن اختبأنا فلم نُقتل، لكنهم في غزة لا يجدون مخبأ». دانا تدرك إذاً واقع القطاع، بل تذهب أبعد من ذلك، فتلمح في كلامها فهماً لمطامع إسرائيل، إذ تقول: «إسرائيل تريد أن تحلّ مكان أهل غزة»، هذا ما تعرفه من نقاشات أهلها وبرامج التلفزيون. الطفلة التي تتمتع بشخصية قوية وحضور مميز رغم صغر سنها، تتحدث كمن يُلقي خطاباً سياسياً. تقول إنها رأت «امرأة تبكي وتشتم إسرائيل». استفسرت دانا عن السبب، فعرفت أن هذه المرأة فقدت ابنها بالقصف الإسرائيلي. في هذه اللحظة تنظر دانا في عيني محدثها وتسأل: «مش حرام هيك! لازم تموت إسرائيل... خلص أنا تعبتتخرج من منزل دانا وأنت تشعر بفخر، تتساءل إن كنت قادراً على توصيف العدوان على غزة كما تفعل هذه الصغيرة، لكنك تريد المزيد، تريد أن تسمع المزيد من كلام الصغار، فتواجهك زينب مرمر (10 أعوام) بالأسئلة. الفتاة السمراء تريد أن تعرف. لم تروِ أحاديث الأهل عطشها. «شو عم بيصير» سؤال كررته عشرات المرات على مسمع جدتها ومعلماتها.
فلسطين تعرفها من دروس صف الجغرافيا، لكن ما تعرفه لا يبدو كافياً بالنسبة إليها. يوم سمعت عن أعداد الشهداء في غزة، علّقت ببراءة مطلقة: «وهل فلسطين كبيرة إلى هذا الحد كي يقتلوا كل هؤلاء الناس فيها؟».
زينب ما زالت تطرح الأسئلة، لكنها متيقنة من بعض الأمور، أبرزها أن «إسرائيل ستأخذ جزاءها لأنها تقتل الناس وتشرد الأطفال»، هذا ما تقوله بحزم، ثم تقدم اقتراحاً يبدو شديد المنطقية، لدرجة أنها تستغرب كيف لا يُطَبَّق. واقتراحها هو باختصار: «لماذا لا نهجم جميعاً على إسرائيل ونتخلص منها؟». وهي إزاء هذا الاقتراح لا تقتنع بكل ما يُقدم لها من إجابات، ربما لأن ما تدعو إليه هذه الطفلة هو من البديهيات، ولكن أهلها يعجزون عن شرح معنى التقاعس العربي، بل ربما تآمر بعض القادة العرب على المقاومة الفلسطينية.
يتأثر رام طالب (4 سنوات) كثيراً بما يشاهد على التلفاز، ويخاف على والدته كثيراً، ويقول لها دائماً: «لا تشاهدي هذا»، رغم أنه لا يعرف ماذا يحصل، فكل تعليقه على الموضوع «لا أعرف»، ويقولها بكل خجل. تقول والدته هبة إن آدم يسأل كثيراً، فتشرح له دائماً ما يحصل بأن إسرائيل تهدم البيوت وتظلم الناس لأنها ليست جيدة. لكنه ينسى ماذا حصل، ويعود يسأل والدته عما يحصل عند مشاهدته الأخبار مرة أخرى.
داني ترك (8 أعوام) سأل عن «أصل المشكلة»، فراحت والدته تشرح له عن الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، وحكت له عن القضية الفلسطينية، عندها اقترح أن تأخذ كل جهة مساحة «ويعيشوا فيها جنباً إلى جنب من دون مشاكل». انزعجت الأم من كلام ابنها ،فعادت وأعطته مثالاً على لعبته، قالت له: «تصور أن أحداً جاء وضربك وأخذ لعبتك وأراد أن يتقاسمها معك بالقوة، فهل تقبل ذلك؟»، فكر داني بالموضوع للحظة وأجاب والدته: «لا سوف أضربه»، فقالت له: «هكذا فعلت إسرائيل مع فلسطين».
وإذا كان داني قادراً على فهم مغزى ما تقوله والدته، فمن يشرح لريتا ابنة الأعوام الثلاثة أن الطائرة التي تشاهدها على التلفاز ليست لعبة. الصغيرة كلما مر مشهد طائرة تلقي القنابل تصرخ «ياي طيارة» أو تردد بالفرنسية «regardez l avion»، تتنبه والدتها لما تردده الطفلة، فتروح تغني أغنية مارسيل خليفة «كان في مرة طفل صغير عم يلعب بالحارة... واطّلع بالجو وقال شوفو شو عم يلمع، هيدي طيارة جايي لعندي الطيارة».
آدم لا يكبر ريتا بكثير. ابن السنوات الخمس يعيش في الولايات المتحدة، ويعرف أنه عربي وأن الإسرائيليين يقصفون غزة. كان يسأل أهله لماذا يبكون، وبدا عليه أنه حزين لما يحصل. لكن آدم عاد أخيراً فرحاً من مدرسته، قال لوالدته إنه يعرف سراً عظيماً عن الأطفال الشهداء في غزة، اقترب منها وهمس في أذنها «ماما لا تخافي سيعيشون مجدداً».