فادية حطيطكل كلمة تكتب خارج موضوع غزة في أيام محنتها هي كلمة عقيمة. ولكن كل كلمة عن غزة في أيام محنتها تفتح جرحاً لا تعود تعرف كيف تتعامل معه. تخاف إن هو نزف أن تنزف معه كل جروحك الأصلية، عدوان تموز وموت الأحباب والاجتياحات والحروب الأهلية. مع ذلك تحاول أن تكتب عن غزة في محنتها. تفتش عن شيء تقوله في خضم ما يكتب، ولا تجد سوى أصداءٍ تتردد. تكتب ما كُتب وتقول ما قيل. ولن يمكنك أن تزيد حرفاً واحداً.
نحن نعرف تلك المشاهد المؤلمة، ونعرف صور هؤلاء الأطفال الخائفين التائهين والمجروحين، ونعرف أكثر صور القتلى منهم ومن أهلهم. وجداننا مليء بالمآسي وسيبقى ممتلئاً بها. لذا حين أنظر في الشاشات أغمض عيني على المشاهد المؤلمة، ليس لرقة أو لضعف أو لهوان، بل لأني أفكر في أنه لربما كان في وجداني مساحة صغيرة لم تملأها الجروح بعد فلأحافظ عليها. إنها مساحة تعينني لكي أرى أنه ما زال ثمة إمكان كرامة للإنسانية. لا يحتمل العيش بدون هذه الإمكانية. الإنسانية كريمة حتى لو كان فيها شرَ إسرائيل وعار الدول التي تغض الطرف عن عداونها، وحتى لو لم يحرك العالم ساكناً أمام صور الأطفال الشهداء. لن يمكن إسرائيل أن تلطخ بالدم كل عيشنا وكل مخيلتنا.
أنا من كل ما تلتقطه عيناي أريد أن أحافظ على صورة الأطفال الفلسطينيين المهجرين متحلقين حول صحون الأكل التي جاءتهم كإعانة يأكلون معاً وهم يضحكون. ومن بين كل الضجيج أريد أن أحتفظ بأخبار الناس الطيبين في لبنان والجزائر والسودان ومصر وأينما كان وهم يجمعون بعض نقودهم أو بعض حليّهم أو بعض دمهم ليعطوه إلى أهل غزة. ومن بين كل اللحظات أريد أن أحتفظ بنبل تلك الدمعة التي تسقط على خد صديقتي ما إن تسمع كلمة غزة.
أريد أن لا أنظر إلا إلى هؤلاء الناس الذين رغم ألمهم لا ينحنون، وإلى تلك الصبية التي تقول بإنكليزية طليقة وبصوت متحشرج « مهما فعلوا ومهما دمروا ومهما قتلوا ستبقى هذه الأرض فلسطينية».
وسأشاهد الفيلم القصير على الانترنيت للفتاة التي تنشد نشيد فلسطين بعزم وثقة وحماسة وحب لا نظير له. ومن بين كل الوقائع لا أريد أن أحتفظ إلا بالمعلومات التي تأتيني على الإنترنت حالما أضغط على كلمة غزة في غوغل: غزة هي ثاني أكبر مدينة فلسطينية بعد القدس، تقدر مساحتها ب 45 كم²، وعدد سكانها بـأكثر من 400,000 نسمة. ولقد أثبتت الأبحاث التاريخية والكتابات القديمة أن غزة تعد من أقدم مدن العالم. ونظراً لموقعها الجغرافي الفريد بين آسيا وأفريقيا، وبين الصحراء جنوباً و البحر المتوسط شمالاً، فإن مدينة غزة كانت وما زالت تعدّ أرضاً خصبة ومكاناً ينشده المسافرون براً و بحراً. واليوم يمضي الغزيون قدماً نحو بناء مدينتهم العريقة. ويستطيع الزائر للمدينة أن يستمتع بشاطئها الجميل وبحسن ضيافة أهلها». ومن كل هذا الانهيار أريد أن احتفظ بحلم واحد وهو أن أكون في يوم من الأيام ذلك الزائر.