ابن النبطيّة يواصل رحلته على «أجنحة التيه»

كامل جابر
اهتدى جواد صيداوي إلى الشعر وذاب في تفعيلاته، لكنّه لم ينشر ديواناً واحداً، بل احترف الكتابة الروائية التي تجلّت غزيرةً في أكثر من 12 عملاً. هكذا، راح وجاء ونهل من دور المعلمين والجامعات وتجارب الاغتراب، حتى وصفه صديقه حبيب جابر بأنّه «رحالة لا يستقر». خلال اتّصالنا به لتحديد مكان للقاء، خيّرناه بين مسقط رأسه النبطية أو شقّته/ صومعته في منطقة مار الياس، فاذا به يختار بيته في بيروت حيث يعيش بين الكتب والروايات متماهياً مع أبي نواس ونزار قباني... هرباً من برد الشتاء في النبطية! بعدما ارتاح إلى مستقبل ابنه وبناته الثلاث، هجر باريس إلى الوطن لأنّ «الحضارة الغربية حضارة مفترسة».
من تجربته في النبطية حيث ولد عام 1932 وترعرع في أجواء أسرة شبه بورجوازية، خرج صيداوي بلون يساري أحمر بدأ يتغلغل في فكره قبل الشهادة المتوسطة. تنقّل بين دار المعلّمين الابتدائي ودار المعلّمين العليا، وعلّم في مختلف المراحل الدراسيّة. وحين التقى في بيروت بعدد من تلامذته كانوا يشكون عدم توافر ثانويّة في منطقتهم، قادهم إلى الوزير كمال جنبلاط الذي وعدهم بإنشاء الثانوية الأولى في منطقة جبل عامل، بعد ثانوية صيدا الرسمية الوحيدة في الجنوب. هكذا، نجح صيداوي في إقامة تلك المدرسة رغم تمنّع الوزارة. وتبعاً لنصيحة الراحل حسين مروة، لم ينتقل صيداوي إلى بيروت، بل بقي في منطقته مديراً للثانويّة «التي أنشأتها بجهدي الخاص، لأن باب النضال هنا أجدى». بدأ مديراً لنحو أربعين تلميذاً، وحين ترك الثانويّة، كانت تضمّ ألف تلميذ تبلغ نسبة نجاحهم في الامتحانات الرسمية 90 في المئة.
في الثالثة والعشرين من عمره، كان «الأستاذ» جواد أول مُجاز في الأدب العربي في بلدته. وفي ذروة استعداده كي يصبح أستاذاً جامعيّاً، راح يلتهم الروايات الفرنسية بشغف «وأهيم بأشعار رامبو وفيرلين وبودلير، حتى حفظت بعضها غيباً». يقول في «أجنحة التيه، الإقلاع»: «لقصيدة بودلير «الدعوة إلى السفر»، فعل السحر في نفسي. هذه الهنيهات من المتعة الروحية التي يتيحها الشعر لي، تنسيني، إلى حين، ما في الواقع من رتابة وتفاهة، وتجعلني أتساءل عن القيمة الحقيقية لما أنظم من قصائد؟».
يعترف صيداوي بأنّه لم يبنِ ثقافته على الكتب الحزبية «بل على قراءتي المبكرة للأدب الفرنسي، خصوصاً آراغون الذي لعب دوراً كبيراً في توجيهي الفكري السليم الهادئ؛ بعيداً عن حماسة الشباب». وهو لا يُخفي شغفه الخاص بروّاد الأدب الروسي قبل الشيوعيّة كدستويفسكي وتشيخوف، إضافةً إلى معلّمي اللغة والأدب في مصر، ورواية «البؤساء» لهوغو التي قرأها بالفرنسية... «على ضوء القنديل».
بين 1955 و1958، نال صيداوي دبلوماً في التربية وآخر في التخطيط التربوي وصولاً إلى الدراسات العليا في السوربون، لكنّه لم يتمكّن من مناقشة رسالة الدكتوراه عن «العقلانية في النصف الأول من القرن العشرين في العالم العربي» بسبب خلاف مع الأستاذ المشرف، الذي رفض مرجعاً روسياً في الدراسة يتحدث عن القضاء على الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، «فعدلت عن الرسالة».
لم يسعَ صيداوي إلى مراكز قياديّة في الحزب الشيوعي، وكان شديد التأثّر بأستاذه رئيف خوري، وتلقى الصدمة الأولى حين طرد هذا الأخير ورفاقه من الحزب. إذ يقول في «أجنحة التيه» إنّ «لرئيف خوري في نفسي مكانةً رفيعةً تنامت منذ الفترة التي بدأت أقرأ له فيها، على صفحات مجلة «الطريق»، ولم تنل الهجمات الظالمة التي تعرض لها، من رفاق الأمس، من هذه المكانة». في 1970، انتقل «أبو حيان» إلى إدارة ثانوية برج البراجنة، وتحت سطوة التهديد الذي ساد خلال الحرب الأهلية اختار باريس قبلةً للسفر. التحق هناك بالسفارة السعودية مسؤولاً عن قسم الصحافة والإعلام، «ومن حسن حظي أن السفير كان أستاذاً للغة العربية، فبقيت في منصبي تسع سنوات».
في عام 1988، التقى صيداوي بالروائي إلياس خوري في باريس. فقال له خوري إنّه عائد إلى البيت. سأله: وهل لك بيت هنا في باريس؟ ردّ خوري: «لا أنا عائد إلى البيت في بيروت». ويواصل الصيداوي: «فما كان مني إلا أن حزمت أمتعتي وعدت إلى بيروت، لأتقاعد وأتفرغ للكتابة والثقافة والبرامج الإذاعية».
كانت بدايات جواد صيداوي الشعرية في دار المعلّمين الابتدائيّة «بدايات متواضعة، ثم نشرت في عدد من الصحف حتى دار المعلمين العليا؛ وهنا بدأت كتابة القصص القصيرة، من دون أن أتوقف عن نظم الشعر الحر مع احتفاظي بالتفعيلة. للأسف لم أجمع قصائدي في ديوان، ربما بسبب بعدي في الستينيات عن بيروت وانشغالي بالتربية». بعد عودته من باريس، أعاد طباعة مجموعته القصصية الأولى «البحث عن بداية»، ونشر الثانية «سقف المدينة»، ثمّ «الطغاة في التاريخ» وهي دراسات تاريخية، و«ليل المعنى» وهي حوار مع الشاعر صلاح ستيتية.
وفي 1992، نشر روايته الأولى «العودة على متن الرحيل» ونشر بعدها سيرته الذاتية «أجنحة التيه» وهي ثلاثيّة تضمّنت «الوكر» و«الإقلاع» و«تونس». وبين 1989 و2003، قدّم على «صوت الشعب» برامج لغوية وأدبية، فخرج من التجربة بالكثير من العتب و«ضياع الأتعاب». لكنّ حكايته مع البرامج الإذاعية كانت بدأت عام 1949 عندما اختاره معلّمه فؤاد أفرام البستاني مع زميل له لمحاورته في إذاعة «الشرق الأدنى». ثم كانت له برامج أواخر الخمسينيات في إذاعة تونس حين زارها ضمن البعثة لتعريب التعليم هناك. حينها كان الشاذلي القليبي مدير الإذاعة. وعام 1960 قدم برنامجاً أسبوعياً في «إذاعة لبنان» عنوانه «ذكريات مدرسية».
لا ينفي صيداوي أنّ البيئة الجنوبية التي ترعرع فيها حتى السابعة عشرة من عمره «كان لها تأثير كبير على ميلي الأدبي، خصوصاً تأثّري ببعض رجال الدين ومنهم أصحاب مكتبات غنية كنا نتردد عليهم أمثال الشيخ أحمد رضا صاحب «متن اللغة» والشيخ علي الزين وغيرهما». ويترحّم على الحركة الثقافية في ذلك الوقت، «فهامش الحرية كان كبيراً. لكن نتائج الحرب كانت أشد خطراً من الحرب بعينها؛ إذ فرضت قوى الأمر الواقع أجواء ثقافية ملتزمة باتجاهات معينة».
أما همّه السياسي القومي فتمحور منذ البداية حول القضيّة الفلسطينيّة: «الجنوب اللبناني كان على علاقة متينة مع الأرض الفلسطينية. إذ كان العمّال اللبنانيون يعملون هناك فيما كانت المنتجات الفلسطينية، وخصوصاً البرتقال، تتدفق على أسواق الجنوب. عندما بدأت الصهيونية تكشف عن نياتها وأنيابها، بدأنا نستعشر الخطر، لكن على قاعدة رومانسية وعاطفية لا على أسس علمية. اتّسع الجرح بعد قيام إسرائيل، إذ تابعنا مراحل الاحتلال بكثير من المرارة، لكن أبشع أنواع المرارة التي ذقناها هي الهزائم التي حلّت بعدما شحن الإعلام العربي نفوسنا بالأمل».


5 تواريخ

1932
الولادة في النبطية (جنوب لبنان)

1984
نشر مجموعته القصصية الأولى «البحث عن بداية»

1989
قدم برنامج «لغة الحياة» على «صوت الشعب» أكثر من عشر سنوات

2008
ترجمت روايته «أجنحة التيه» (دار الآداب) إلى الفرنسية والإنكليزية

2009
ينكبّ على كتابة رواية «أروقة الذاكرة» ثلاث سنوات بعد صدور «ثمالة حب»