محمد شعير
لا يمكن أن نتجاهل الذوق التشكيلي العالي في شقّة نصر حامد أبو زيد، حيث تنتشر لوحات أصليّة للتشكيلي المصري عدلي رزق الله. يضحك أبو زيد، «في كل أزمة واجهتني، كان رزق الله يُهديني لوحة. وفي المرّة الأخيرة، قال لي: بلاش أزمات لقد أفلست بسببك».
لوحة «دون كيشوت» الشهيرة لبيكاسو تحتلّ مكاناً بارزاً في الشقّة الواقعة في مدينة «السادس من أكتوبر» إحدى الضواحي النائية عن القاهرة. والمفارقة أنّ نصر يقيم في شارع يحمل اسم عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر السابق، صاحب فتوى ظهرت في السبعينيات وتُجيز تفريق الشيوعي عن زوجته المسلمة. يقول صاحب «التفكير في زمن التكفير» (دار سينا، 1995) إنّ النقاد «حاروا في تصنيف دون كيشوت، كما حاروا في تصنيفي بين شيوعيّ وليبرالي».
هرب نصر أبو زيد في حياته من مصائر متعددة. كان يمكن أن يصبح شيخاً أزهريّاً، لكنّ مرض والده واضطرار الابن البكر إلى إعالة الأسرة منعه من الالتحاق بالأزهر. وكان يمكن أن يقضي حياته في إصلاح «أجهزة اللاسلكي» بعدما تخرّج من معهد فنّي لاسلكي، إلّا أنّ طموحات الشاب كانت أكبر، فقرّر العمل ومواصلة دراسته الثانوية في المدارس الليلية ولاحقاً في الجامعة. كان يمكن أيضاً أن يكون أستاذاً جامعياً، مثل آلاف الأساتذة، يملي على طلابه ما يقرأه في كتب الآخرين، يطبع المحاضرات ويبيعهم إيّاها. هكذا، كان نصر سيعيش حياةً مستقرةً، لكنّه اختار أن يغرّد خارج السرب.
كان يحلم بأن يصبح شاعر عاميّة يغيّر مجرى الأغنية المصرية. «صلاح جاهين المحلة» هو اللقب الذي أطلقته عليه «شلّة المحلّة» ـــــ وضمّت مجموعة من أبناء تلك المدينة العمالية الشهيرة، مثل جابر عصفور، محمد صالح، جار النبي الحلو ـــــ بعد كتابته لقصيدة عامية مختلفة عن السائد حينها. وبعدما نشر أول دراسة نقدية عن «أزمة الأغنية المصرية» (1964)، كان حلمه الآخر أن يصبح «ناقداً أدبياً» بعدما تخرّج أوّل على دفعته في كلية الآداب. حينها، أخبره أساتذته بأنّ قسم الدراسات الإسلامية يفتقر إلى المتخصّصين، وأنّهم يحتاجون إلى طالب يُكمل دراساته العليا في ذلك القسم. أبلغهم نصر خشيته من أن يكون مصيره كمصير مَن سبقوه، أمثال طه حسين، وأمين الخولي، فأقنعوه بأنّ تلك الحالات لم تتعدَّ كونها «خلافاً بين الأساتذة». عندها، عشق أبو زيد التحدي، وواصل دراسته لينال الماجستير والدكتوراه في الدراسات الإسلامية، وأصبح كما أراد «باحثاً»، مهمّته «فهم الظاهرة الدينية في تاريخيّتها لا أكثر». هكذا هو، لا يريد أن يكون ما يريده الآخرون له. لا يحبّ صاحب «إشكاليات القراءة وآليات التأويل» أن يعتبره المثقّفون رمزاً للصراع بين التفكير والتكفير، أو بين الحريّة والقمع. هو مجرد «باحث» لا يملك إجابات جاهزة على كلّ شيء، بل «أسئلة» لم تخرج عن حدود الإيمان.
كان أصدقاؤه ينادونه بـ«الشيخ نصر» في إشارة إلى انضمامه إلى «أشبال» جماعة الإخوان المسلمين في عام 1954، وقد ألقي عليه القبض حينها لساعات عدّة، فأهداه الإمام الهضيبي مرشد الإخوان بوصلة. «كان عمري وقتها عشر سنوات، واختاروني لأشارك في استقبال المرشد، وكان صوتي جهورياً، وكنت أهتف: الله أكبر ولله الحمد. عندما مررت أمام المنصّة، رفعني أحد الرجال ووضعني أمام الهضيبي شخصيّاً، فصافحني وأعطاني بوصلة قائلاً: أرجو أن تهديك في حياتك».
عندما طرح مسألة «نقد الخطاب الديني» وقدّم بحثه بهدف الترقّي في الجامعة عام 1993، قامت الدنيا ولم تقعد. رأى بعض الأساتذة في جامعة القاهرة، على رأسهم عبد الصبور شاهين، أنّ طرد نصر حامد أبو زيد سيكون بمثابة «انحسار للعلمانية في الجامعة». وسارع شاهين إلى كتابة تقرير ساخن يرفض الترقية، ويتهم الباحث الذي يطلبها بالكفر. واكتملت الدائرة المرعبة بدعوى التفريق بينه وبين زوجته ابتهال يونس أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة. هكذا، وجد أبو زيد نفسه «مطلوباً» وأمام خيارين: إمّا أن يذهب إلى المحكمة ويتراجع عن بحثه وينعم بالتالي بحماية المؤسسة الدينية، أو أن يرمي نفسه في أحضان المؤسسة السياسية التي تريد استخدامه في معركتها ضدّ تيارات التأسلم. كلا الحلّين كان سيضمن له الحماية التي افتقدها بعد تكفيره، وكلاهما كان اعترافاً منه بالهزيمة أمام محتكري الحقيقة المطلقة. لكنّ نصر اختار حلّاً خاصاً به، فحمل حقائبه واتجه إلى هولندا استجابة لدعوة من جامعة ليدن، وبقي هناك أكثر من 15 عاماً لم يزر فيها مصر إلا نادراً.
كان بإمكانه الذهاب إلى المحكمة والنطق بالشهادتين، ليحلّ كلّ تلك الأزمة، لكنّه لم يفعل. «لم أكن أريد التأسيس لسلطة تبحث في قلوب الناس». المفارقة أنّه استهلّ أول محاضرة له في هولندا بالبسملة ونطق الشهادتين. «كنتُ خائفاً من أن أستقبل في أوروبا باعتباري متمرداً على الإسلام، وأنا لست كذلك. نطقت بالشهادتين حتى أقول لهم إذا كنتم تحتفون بي لاعتقادكم بأنني ضد الإسلام فذلك خطأ، لأنني باحث من داخل دائرة الحضارة العربية الإسلامية».
وجد نصر مناخاً مفتوحاً على النقاش في القضايا المحرّمة في الثقافة الغربيّة من دون الخوف من الاغتيال، كما خاض معارك كثيرة دفاعاً عن الإسلام، كانت أشهرها مع الكاتبة البنغلادشية المثيرة للجدل تسليمة نسرين. «كان الهجوم على الإسلام من قبل مسلمين موضةً في الغرب. كلّ مَن مرّ بمأساة شخصية، يخرج شاهراً سيفه ضد الإسلام. كنت مدركاً لذلك، كباحث في منطقة ملغومة بالأسئلة الصعبة».... باختصار، هذا الرجل «ليس كافراً ولا درويشاً»!
اهتمام أبو زيد بشرح قضيته، جعل بعضهم يرى أنّ مشروعه الفكري انتهى تحت ضغط الدفاع عن الذات، وتفرغه لمعارك فكرية مع الغرب. يضحك أبو زيد، فـ«البعد السياسي في قضيتي كان أكبر من البعد الفكري، وهذه القناعة حمتني من العيش في عقدة الضحية». منذ عامين، جاء أبو زيد إلى القاهرة إثر وفاة شقيقته. في المأتم، بدأ القارئ تلاوة القرآن عبر مكبرات صوت تُحدث صدىً يشبه الموسيقى الصاخبة. هذا الأمر أغضب نصر، فطلب من المسؤول عن مكبّر الصوت إلغاء الصدى الذي لا يتناسب مع «جلال القرآن». اندهش أهل القرية من موقفه الذي ينفي ما يتردّد عن «كفره»، فأمطروه بأسئلة عن قضايا فقهية، وأجابهم.
لكن ألا تكفي 15 سنةً من الغربة؟ يجيب «بقائي خارج مصر مريح لكثيرين». لكنّ صاحب «دوائر الخوف» لن يعود في المدى المنظور، لأنّ الحديث عن الفكر في المجتمعات العربية يتزامن مع الكلام عن «حدود الحرية قبل ممارسة الحرية ذاتها. دعونا نمارس الحرية ونرتكب بعض الحماقات، لأنّ الحرية نفسها تضبط مسارها». لهذا لا يبدو متفائلاً: «عندما أفكر في المجتمع العربي تصيبني حالة من العجز وأشعر بعدم جدوى الكتابة، لكنّي أستمر لأن الكتابة أبقى، وربما يأتي شاب يوماً ما، يقرأ ويمتلك القدرة على التغيير». ربما نجد هنا وجهاً آخر من أوجه الشبه بينه وبين «دون كيشوت».


5 تواريخ

1943
ولد في مدينة طنطا ـــ محافظة الغربية (مصر)

1972
حصل على إجازة من قسم اللغة العربية (كلية الآداب) وعُيِّن عميداً في الكلية

1979
نال الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى عن رسالته «فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي»

1995
سافر إلى هولندا أستاذاً زائراً فى جامعة لايدن بعد صدور حكم التفريق بينه وبين زوجته ابتهال يونس

2009
ألقى محاضرة في الجمعية الفلسفية المصريّة في الجيزة، بعدما قام في خريف 2008 بأطول زيارة له إلى مصر منذ خروجه منها، ضيفاً على مكتبة الإسكندرية للحديث عن مشروعه البحثي الجديد عن «القرآن كنص»