ميرا صيداويالليلة أيضاً ستمر كالليالي الماضية. سأشرب كوب الماء البارد محدقاً بمرآة خزانتي العتيقة. شيء ما يفقدني توازني. لا بد أنّه شحوب الوجه واصفرار العمر. أردد في نفسي جملاً متقطّعة بينما أحمل جسدي وأرتمي على السرير.
غداً يوم عمل طبيعي. سأذهب إلى عملي فرحاً إلى حد البكاء وقد أحدّث الأشخاص ذاتهم، مبتسماً بين الجملة والأخرى واضعاً علامات الاستفهام الدقيقة. ولمَ لا أناقش أمور الحياة مع سائق التاكسي؟ وقد أرثي معه حال البلاد متأملاً السماء، مراوغاً شكواه حتى تغفل عينه عن طول الطريق وقروشي القليلة.
غداً سأحمل حاسوبي وأجلس في أحد المقاهي منتظراً إحدى السيدات الرشيقات لأعرض أمامها تعليقاتي الجديدة على الأوضاع الفكرية والسياسية في البلاد.
غداً لن يكون عادياً فغزّة لا تزال على شاشات التلفاز كلها، وستغرق الوجوه في العمل بوضع «التحاليل البولية» عفواً «العملية» للفترة المقبلة. ولا فرق. فقد تطالعني بعض المزايدات من طراز «اوف حرام مرا وولادها الصغار». وقد يدور النقاش حول إيران وأميركا وغيرها... وقد يحتد النقاش لأجد نفسي أصرخ بالجميع، وأحمل علبة دخاني وبعض الأوراق وأرحل وأنا أبتسم في داخلي إذ أسمعهم يهمسون: «يا جماعة خلص، بتعرفو انو فلسطيني وتعبان كتير اعذروه. الله يعينو». ولمَ لا أخبر سائق التاكسي بعضاً من تحليلاتي الجيّدة، وسأهز رأسي كالعادة حينما يقول: «يا أستاذ بالقرآن مكتوب إنو القدس رح تتحرر وفي قائد كبير رح يحررها». أسأله «وإلى حينها ما الذي سيحدث للفقراء الذين يموتون؟». تنكمش ملامحه ويطلق العنان لبوق سيارته ويقول: «يا عمي خلص. نحنا متنا كمان شو نسيت». وقد يشعر بثقل اللحظة فيدير جهاز الراديو ويستمع إلى أغنية فيروزية. لوهلة، أراه يبتلع غصة متعبة، وعندما تغرّد فيروز صارخة بالغضب الساطع الآتي يطفئ الراديو ويعاود البحث مع زمّوره عن فريسة ليلتقطها.
سأجلس في المقهى وأسمع المثقفين الجدد يضعون خطط تظاهراتهم الجديدة، بينما تنغرس كل ملامحي في الجريدة أقرأ التفاصيل كأنني أموت ألماً ممّا يحصل. وقد أحمل نفسي إلى اعتصام مردداً «واجب هادا واجب».
ستنبض كل الحياة غداً بغزّة: الأخبار، الإعلام، الأغاني، التعليقات، والأحاديث الصباحية والغرامية، الشعر والمقالات، والأموات والأحياء. كل العيون ستبدو معلّقة بغزة، وسيبدو العالم من حولي غاضباً ثائراً وعابساً وستنتشر تعليقات الشفقة والانتماء والقوميات العربية، وقد تتبعثر مزايداتنا في حفظ عدد الأموات الجدد أو الشهداء، وقد نشتري الجرائد كل يوم.
ولا أدري لما محسوبكم الأخ المناضل القديم أبو صالح لا يشعر بشيء يذكر. لقد حاربت إيماناً مني بالثورة والآن أصبحت بارداً.
برود مريض يستحوذ على كل مشاعري، إذ لم أعد أستطيع العيش على أشياء الغير ولا أكذب عليكم، فأنا مللت أيضاً من السلوك ذاته. يا جماعة أنا مصاب بفقدان الحس القومي والعربي ولا شيء يربطني بأموات شعبي سوى الحس الإنساني «ومش عم بتفرق معي كتير».
لقد قررت. غداً لن يكون لغزّة بل سيكون لي. فغزّة نتيجة موتنا جميعاً والأحرى بنا أن نحاسب أنفسنا. لا تظاهرات تكفي لأرضي ولحرمانها ولألمها الستيني، ولا خطابات ولا حتى مؤتمرات وجلسات مصطنعة. ولا الصور تكفي.
لا شيء يكفي فلسطين كلها ولا حتى كذبكم وكذبي. هناك ما هو أقوى من الكذب: الدماء. فلنتعرَّ جميعنا، فقد كفرت بنا الأرض منذ سنين وكفرنا نحن مللاً بأوجاعنا. لذلك أنا أعلن العصيان المجنون الثائر المتخبّط في السرير، وتصبحون على غزّاكم وأصبح أنا على آلام الرأس المعتادة.