وراء المشاهد الكابوسية التي نقلتها الشاشات عن مجازر إسرائيل في غزة، تكمن جريمة أخرى تعود أصولها إلى بدء حصار القطاع، ستتكشّف نتائجها فور أن يبرد الدم المراق، ويعجز من نجا من الغزاويين عن تحصيل رزقه
رنا حايك
لم يؤرخ العدوان الإسرائيلي على غزة لبداية تدمير اقتصادها. فمسلسل استنزاف القطاع من مقوماته المعيشية كان قد بدأ بشكل ممنهج وعنيف منذ إطباق الحصار على نفوس مزارعيه ومنعهم من تصدير منتجاتهم وتجريف أراضيهم. ممارسات أدّت إلى انهيار كامل لقطاع الزراعة الذي يُعدّ المزوّد الرئيسي لحاجات السكان على المستوى المحلي، والمنتج التصديري الأهم الذي تعتاش من مداخيله نسبة كبيرة من المزارعين.
فقطاع غزة يتمتع بمساحات واسعة من الأراضي الزراعية يصل مجموعها إلى 70000 دونم تترواح قدرتها الإنتاجية بين 280 ألف و300 ألف طن من المنتجات الزراعية في العام، يُخصّص ثلثها للتصدير. والقطاع الزراعي فيها يوفّر وظائف دائمة ومؤقتة لأكثر من 40 ألف مواطن في غزة، يمثّلون 12.7% من القوى العاملة، ما جعل آثار تدميره خلال أيام الحصار كارثياً على أهالي القطاع.
فقد منع الاحتلال تصدير المنتجات الزراعية خارج القطاع منذ أن فرض الحصار الشامل عليه، كما منع، في المقابل، إدخال أي من البذور والأسمدة والمستلزمات الزراعية الأخرى، ما كبّد القطاع الزراعي خسائر فادحة تجاوزت، بين منتصف شهر حزيران ونهاية شهر شباط من عام 2008، مبلغ 85 مليون دولار، بحسب التقديرات الأولية لاتحاد جمعيات المزارعين الفلسطينيين. أما بيانات وزارة الزراعة الفلسطينية، فقد أظهرت أن معدل الخسائر اليومية نتيجة عدم قدرة المزارعين على تصدير منتجاتهم قد بلغ حدود 150 ألف دولار يومياً، وخصوصاً أن الكثير من مزارعي الزراعات التصديرية قد اضطروا إلى بيع منتوجاتهم في السوق المحلي بأسعار أقل بكثير من تلك المحددة للتصدير، كما اضطر الكثيرون منهم إلى إتلاف كميات هائلة منها، كما فعل مثلاً مزارعو الطماطم الكرزية والفلفل الرومي والزهور الذين قدموا محاصيلها طعاماً للماشية والدواب بعدما استحال إيصالها إلى الأسواق الأوروبية التي كانت قد زُرعت خصيصاً لها. فقد كانت مواسم تصدير هذه المزروعات تنقضي دون أن يسمح الاحتلال بتصديرها، رغم تدخّل بعض الأطراف الأوروبية للوساطة في فتح المعابر.
وفيما واجه مزارعو التصدير خسائر مباشرة من البيع في الأسواق المحلية، تأثر مزارعو السوق المحلي بسبب إغراقه بالبضائع التي كانت مخصصة للتصدير. كان لذلك الواقع مفاعيل شديدة الخطورة على القطاع الزراعي، إذ إنه دفع بأكثر من 50% من المزارعين إلى العزوف عن زراعة أراضيهم، بعد تكبدهم الخسائر الفادحة، لا سيما مع ارتفاع أسعار المواد الخام اللازمة لعملية استصلاح الأرض وفلاحتها.
من ناحية أخرى، وكنتيجة مباشرة للقيود التي فرضها الاحتلال، فقد فقدَ أكثر من 3 آلاف من العاملين في مجال الصيد البحري وظائفهم، ومُني هذا القطاع بخسائر وصلت إلى حوالى 3 ملايين دولار.
إلا أن الصهاينة لم يكتفوا بما حققوه من شلل في مرافق القطاع الزراعي وبما يفرضونه من موت بطيء على مقومات الحياة في غزة. فقد جاء العدوان الأخير الذي شنّوه لمدة 22 يوماً، ليقضي، بالإضافة إلى شلال الدم الذي تسبّب به، على ما بقي من سبل العيش في القطاع الجريح.
فقد أحصى اتحاد جمعيات المزارعين الفلسطينيين في بيان أصدره بتاريخ 15 كانون الثاني 2009، حجم خسائر القطاع الزراعي التي خلّفها الحصار، من خلال الأرقام والوقائع المذكورة أعلاه، بالإضافة إلى أخرى إضافية سبّبتها الهجمة العدوانية الأخيرة التي «أدت إلى تدمير كامل لكل مرافق القطاع الزراعي في غزة، بدءاً من تجريف الأراضي، مروراً بتدمير شبكات الري، وصولاً إلى اقتلاع الأشجار وتخريب المزروعات وحرقها وهدم البيوت البلاستيكية وحظائر المواشي بكل أنواعها»، لينهي سردها بمناشدة «كل الأشقاء العرب والأصدقاء الأجانب ومؤسسات التنمية الدولية تجنيد الأموال لإعادة بناء ما دُمّر على يد آلة الحرب الإسرائيلية، وخصوصاً في مجالات البنية التحتية للقطاع الزراعي».
من ناحية أخرى، أكدت وزارة الزراعة في قطاع غزة من خلال بيان وزعته على وكالات الإعلام أن العدوان الإسرائيلي قد خلّف خسائر باهظة في القطاع الزراعي وصلت إلى تسعة ملايين دولار.
فقد أدى القصف المكثف إلى قطع أوصال شبكات الري، بينما منعت عناصر جيش الاحتلال المتوغلة شرقي القطاع وفي شماله الشرقي المزارعين من الوصول مزارعهم، بينما أدى انقطاع الوقود إلى توقف مئات المولدات الكهربائية المسؤولة عن سحب مياه الآبار بهدف الري، عن العمل، ما أفضى إلى إتلاف المزروعات والتسبب في نقص الخضار والفاكهة الحاد في المنطقة.