أنسي الحاجهذه ليست المرآة فقط

ماذا سيطالعكَ في المرآة؟ إذا كانت عيناكَ مرآة روحك فالمرآة مجهول عينيك وصدمة روحك. قَفَص المتمرئي، الأفعى الباردة جنسيّاً، حَجَر النَفْس، الحقيبة التي مهما وضعتَ فيها لا تمتلئ...
نهرب من مرآة إلى مرآة، وعندما نتعب يأكلنا فراغ المرآة.
أنبحثُ عن المرآةِ أم نهرب منها؟
نبحث عن المرايا التي تخيفنا، لنتحسّس مواضعَ الارتياب، لنتأكد، لنمحو همس المرايا.
مرآتنا المرغوبة هي صورتنا فتياناً، حين علينا سحرُ جهلنا وصفاء غبائنا. ابتسامنا لكاميرا تعرف مصيرنا ولا نعرفه.
المرآة امرأة زائدة، ملساء كبداية الصبا ميساء كمنتصف الصبا فارغة مستعدّة كضيافة المشتاق، ممتلئة مكتنزة كمستقبل الذكريات. تظمأ في غيابنا وتجوع، وحين نرجع تَهشّ لنا وتَبشّ، ولكنّنا نظنّ أننا نحن مَن يبتسم لها. هي حليب خيالنا، سماء عيوننا، توسُّل قلوبنا، مَعْبدنا ويومنا الدينيّ المتواصل.
هذا الآخر الذي كَمَشَنا، هذه الذاكرة اللعينة، السارحة في الظلام حول الشيطان، البوّابة إلى تَفتُّح شرانق الحلم، الإغماضة على أنا التي هي، الثلج المزجّج فوق الألعاب الناريّة، التي في يوم من الأيّام نتطلّع إليها مثل ذلك الشاعر ولا نعرف مَن هو هذا الشخص، فنحيّيه، ونمضي.
... وماذا لو لم تكن المرآة هي سطح بحيرة النرجس وقد تجمَّدَ في لوحة الخزانة؟ ماذا لو كانت شكل أرواح الذين انعكسوا فيها؟ ولكن أليس كلّ ما على الأرض مرايا، السماء والبحر والوادي؟ والسهل والهواء؟ والغياب؟ ووجهكِ؟ المرآة أنتِ بلا عواقب، أنتِ بلا بَعْدَ حين. لا كما هو القمر مرآة الشمس بل كما أنا مرآتُكِ وأنتِ مرآة إغرائك. مَن ذا يريد الغوصَ تحت الماء؟ دعي الابطال لهذه المهمّة! نحن لنا مطاردة الآفاق، على سطوح الرياح، بين بيادر الورد ومرافئ السنابل.
والمرآة ليست إلّا لكِ. انظري إليها بلا ابتسامة وسوف ترين أنّها تبتسم لكِ. الرجل لا ينعكس في المرآة إلاّ رَجُلاً، وأنتِ وراءكِ في كل زاوية من أيّة مرآة مواكبُ رجالٍ يتنافسون على خَطْفكِ. روحُكِ المرآة. روحكِ أيّتها المنحوتة المتوالية. مَن يعرف، حين تَنْظرين، مَنْ تعشقين؟ تحت كلّ نظرةٍ طريدة. مرآتُكِ وأنتِ، الوهمُ ولحمُه. حذار! رَبّي مرآتكِ حتّى لا تذوب فيكِ، رَبّي منامَ عينيكِ. افصلي بين تمثالكِ وتمثالها تارة بحركتك وطوراً بجمودها. ضعي بينكما مسافة النور عن الظلّ ولا تدعيها تعرف مدى اهتمامك بها. روّضيها بمرآتكِ فوق مرآتها. دعيها، بين زيارة وأخرى، تتمرّى فيكِ.
نامي على أسراركِ حتّى وأنتِ تكشفين لها منها. دعي حدود المرآة، المرآة الشيطانة، تقف عند خداع عينيكِ. لا تعطيها أكثر من وجه وجهك ووجه جسدك. هذه ليست المرآة فقط... حذار! حذار أن تذوبي فيها! دعيها على الدوام ترى فيكِ أقلّ ممّا ترين فيها. تواري خَلْف ثيابك، خلف عريكِ وعينيكِ، لا تتآخي معها إلى حدّ الاستسلام. أيّتها الجميلة، أنتِ محكومة بالتحفُّظ لأنّه سياجُ سحرِكِ، محكومةٌ بالحجابِ لأنّكِ قَمَر.
دعي المرآة تكبر عنكِ...

العري لحجابه والحجاب لعريه

أَنْ يُترك العري لحجابه والحجاب لعريه، وأن يُصان الافتتان بهما ويُغذّى بلا إهمال. أن يظلّ الجسد مغتسلاً بالماء والعطر وأن يفوح بما ليس منه بل مِنْ شوقِ مَنْ يريده. الجسدُ ليس تحدّياً بل هو تَقْدمة. المُغْتَصِب معتدٍ على نفسه فلا تُغْتَصب التَقْدمة. الجسد ليس معركة بل تَلَمُّسٌ في عَتْم، انذهالٌ في وَضَح، إشراقةٌ في أرواح مَنْ يرتشفه. يطلب الجسد مَن يَهوي وهو يتسلّقه ومَن يملأه وهو يهوي إليه. ويطلب أن لا يُسمّى بل أن تُطْلَق جميع أشرعته فلا نَعْرف حدوده ولا أَعداده. الوجه مسؤول عن الجسد، الوجه يُجوّع، الجسد يُطعم، والجسد يُجوّع والوجه مرسال.
الخوف من الجسد خوفٌ من أقذاره لا من إغرائه. العينان زعيمتا الجسد لأنهما منارتا الوجه. المنارتان يجب أن لا تُغْمضا.
إن لم يتقدّم الجسد إلى الجنس نظيفاً ويحافظ على طهارته طيلة الوصال، طيلة الاجتماع، تنحبس النَفْس في عقالها ولا تَشْبق على الجسد. يتأذّى الجسد من النفور والاشمئزاز لدى الآخر كما يتأذّى المنفيّ لدى تشرّده. ينهار في بؤسه وفي التخلّي. إذا قاربه جسد الآخر فوّاحاً غضّاً بنضارةِ النهر وإيحاءاتِ الثلجِ والنار، حلّق الجسدان معاً في فضاءِ روحَيهما كطائرينِ ينبعثان من الرماد.
وأَنْ يُترك العريُ لحجابه والحجاب لعريه...


في الركن الخالد

كم يُحبّ حين يُحِبّ!
يَغفُر للمجرمِ ويعانق الشرّير. لا يعود يرى التهوّر في المتهوّر بل عواصف العشق. وعندما يمرّ بالشارد واللامبالي ينتقل إليهما من وجهه تَوهُّجُ إشراقِ المتصوّف، فيخدّرهما ذهولٌ سريع.
كم يُحبّ حين يُحِبّ!
يفيض النور من قلبه إلى عقله، ومن روحه إلى جسده، ومن أطراف أصابعه إلى الدغل والصخر. وكم يكون نائماً! وكم يكون حيّاً!
وعندما يتنقّل يتنقّل معه الدفء، وحيثما يحضر يتبخّر الغضب.
المعجزة تَشْبقُ شَبْقاً والتجلّي سرعان ما يغيب، لكنَّ لحظةَ الانخطاف في كليهما تظلّ منحوتة في الركن الخالد. ومن قوّة ما أَحَبَّ مُلئ هيكله بشموعٍ لا تنطفئ.
كم يُحِبّ حين يُحِبّ!


عابرات

هؤلاء الأطفال الذين يموتون خَلْف أعمارهم ولا أثر سوى من أَطلال أجساد أو أنقاض غيوب أو حرائق من أول الليل إلى آخر الأعناق.
بول شاوول
(«إلى أطفال غزّة»)

□ □ □

يدخّن صديقه كثيراً. يتكلّم والسيجارة في فمه. وعندما كان يصغي إليه كان يحسّ بأن كلماتٍ كثيرةً يقولها صديقه غير مفهومة أو مبتورة أو ناقصة. شعر بأن صديقه يدخّن السيجارة وكأنه يدخّن كلماته. بل وأحياناً يدخّن كلماته أكثر ممّا يدخّن سجائره. لهذا ربّما اعتبر أن صديقه من أجمل الشعراء.
بول شاوول
(«دفتر سيجارة»)

□ □ □

... لهذا لا تعرف أحياناً مَن يسبق إلى الطاولة: ذلك الرجلُ أم ذلك الآخر. ولا تعرف مَن يرتدي هذه الملابس ذاتها: الرجلُ أم الآخر. ولا تعرف عندما يلتفت: مَن يرى، هو أم الآخر؟ مع هذا تنتظره، مثله، وتتحسّس يديكَ وتكاد تسأل: أنا أم الآخر...
بول شاوول
(«بلا أثر يُذكر»)