ذهب إلى براغ لدراسة الفيزياء النوويّة، فاكتشف السينما. وكانت النكسة سبب استقراره في دمشق، المدينة التي صوّرها من مختلف الزوايا... ويحلم اليوم بالنزول إلى أعماقها المنسيّة

خليل صويلح
صفعة من عسكري في متنزّه عام قلبت حياته رأساً على عقب. تلك الحادثة البعيدة تبدو كما لو أنها مشهد في فيلم سينمائي يحمل توقيعه. يقول نبيل المالح: «هذه الصفعة علّمتني أن أكره البزة العسكرية إلى الأبد». فجأة، وجد نفسه رسام كاريكاتور في صحافة الأربعينيات يسخر من مضطهديه وخصومه، الأمر الذي عرّضه للاعتقال أكثر من مرة في فترة حكم أديب الشيشكلي لسوريا. الابن المشاكس لعائلة بورجوازية دمشقية قرر أن يدرس الفيزياء النووية: «بحقيبة صغيرة ومئتي دولار وجدت نفسي في مطار براغ». في الجامعة درس الفيزياء النووية مدة سنتين، لكنّ تجربة عابرة غيّرت مجرى حياته مرةً أخرى: «كنت مفلساً، حين اقترح عليّ أحد الأصدقاء أن نعمل كومبارساً في فيلم تشيكي. في موقع التصوير، اكتشفت أن السينما هي المهنة التي أبحث عنها». هكذا هجر الفيزياء النووية ليدرس السينما. تقرير أمني خلال فترة الوحدة السورية المصرية أدى إلى سحب جنسيته السورية، فلم يتمكن من العودة إلى بلاده... وبعد الانفصال (1961)، عاد إلى دمشق فاقتيد إلى السجن. «لم يتغيّر المشهد: رباح الطويل وزير الداخلية في فترة الوحدة هو نفسه في مرحلة الانفصال، لذلك اعتبرني معارضاً». بعد خروجه من السجن، تشرّد في أوروبا سنوات، إلى أن عمل في منظمة اليونيسكو بمساعدة صديقه شريف الخزندار، وأصدرا كتاباً مشتركاً بعنوان «سرّ المسرح».
في سنة 1968، أتى دمشق في زيارة عابرة قبل هجرته إلى كندا، لكن مصادفة أخرى أبقته في البلاد. كانت «المؤسسة العامة للسينما» في بداية تأسيسها، ومديرها حينذاك موفق الخاني يبحث عن مخرج سينمائي لتحقيق فيلم عن هزيمة حزيران. «تورّطت في المشروع، وغرقت في هموم السينما المحلية».
لا شك في أن فيلم «الفهد» الذي أخرجه نبيل المالح كأوّل فيلم روائي سوري طويل، هو ـــــ لاعتبارات كثيرة ـــــ أحد العلامات الفارقة في تاريخ هذه السينما. لكن للفيلم حكاية تروى: بعد إنجاز السيناريو، عن رواية حيدر حيدر التي تحمل الاسم نفسه، وقبل تصوير الفيلم بأسبوع واحد، جاء «فرمان» من وزارة الداخلية بمنع الفيلم بذريعة أنه يشجّع التمرّد الفردي لقاطع طريق، ويسيء إلى سلك الشرطة. كانت حكاية الفيلم مستقاة من قصة حقيقية عن فلاح يدعى «بو علي شاهين»، تمرّد على الإقطاع، فطارده رجال الدرك في الجبال، وشُنق في ساحة قريته ليكون عبرة للآخرين. هكذا طويت صفحة الفيلم موقتاً، ليلتفت نبيل المالح إلى مشروع آخر هو تصوير «رجال تحت الشمس» عن قصص لغسان كنفاني في ثلاثية سينمائية، إضافة إلى فيلم تسجيلي بعنوان «نابالم».
في 1971، تغيّرت الأحوال السياسة في سوريا، وسُمح بتصوير «الفهد». وقد حقق الشريط نجاحاً ساحقاً، وصار بين أكثر الأفلام السورية شعبيةً. في أحد مشاهد الفيلم تظهر الممثلة «إغراء» عارية: هذه اللقطة الجريئة، غير المسبوقة في تاريخ السينما السورية، ستُحذف بعد... خمس سنوات على إنجاز الفيلم! يعلّق نبيل المالح: «الرقابة سلفية على الدوام، لذلك تداركت الأمر بمفعول رجعي وحذفت اللقطة». لعل هذا ما حصل بطريقة مشابهة في سيناريو مسلسل «أسمهان» الذي كتبه وانسحب من إخراجه بعد تأجيل المشروع أكثر من مرة: «تم حذف170 مشهداً من المسلسل الذي أخرجه التونسي شوقي الماجري... ولا شك في أنها أثّرت على مستواه الدرامي والجمالي».
في «بقايا صور»، اقتبس المالح رواية حنا مينة في فيلم حقق حضوراً لافتاً، وحاز جوائز عدة. لكن بصمته الحقيقية كانت في فيلم «كومبارس». هذا فيلم سوري يفترق عن سواه باشتباكه مع واقع راهن، وأسئلة مضمرة عن الحريّة الفردية، وإذا به يبتعد مسافة طويلة عن أفلام السيرة الذاتية التي وسمت السينما السورية خلال العقدين المنصرمين. فيلم عن عاشقين خائفين في عالم أمني، خانق وضيّق، يضغط على الأرواح في الغرف المغلقة.
في جعبة نبيل المالح اليوم 12 فيلماً روائياً، وعشرات الأفلام التسجيلية... لكن هذا الكم من الأفلام لا يغريه بالركون إلى منجزات الأمس: «أرغب في أن أعيش حالة ابتكار وتجدّد دائمين، من موقع الاختلاف لا التراكم». في الواقع، فإن هذا السينمائي يفترق في سينماه عن بقية زملائه لجهة البلاغة البصرية وزاوية النظر... فهو يجرّب على الدوام، وينتقل من أسلوب إلى آخر في بحث جريء عن مناطق سينمائية بديلة... ألم يكن واحداً من مؤسّسي «مهرجان السينما البديلة» مطلع السبعينيات؟ لذلك فهو يشبّه نفسه بالمحارب الذي يخوض معاركه على كل الجبهات، إذ إن مشاريعه المؤجّلة أكثر من مشاريعه التي أنجزها طوال نصف قرن: «أفكر اليوم بتحقيق أفلام «أندر غراوند»، تكشف العالم السرّي لحياة السوريين، وتضيء مناطق معتمة، لم تقترب منها السينما السورية قبلاً». فهو يشعر بأن السينمائي السوري «تحوّل إلى حكواتي، ونسي البنية المركّبة للفيلم والتحولات الجديدة في الشارع السوري»...
تجاوز نبيل السبعين من دون أن يترك للإحباط أن ينال منه في زحمة المشاريع المؤجّلة. ها هو يستعد أخيراً لتصوير فيلم روائي جديد بعنوان «البيانو»، ولديه مشروع آخر بعنوان «فيديو كليب»، يقول عنه إنه «مكتوب بسردية جديدة في سياق السينما العالمية». أما آخر مشاريعه في السينما التسجيلية فيحمل عنوان «الكريستال المقدّس». الكاميرا تتجوّل في رقعة صغيرة من دمشق القديمة تمتد من البوابة الرومانية إلى الباب الشرقي: «في هذه الجغرافيا ستجد أربعة جوامع، وعشر كنائس، وأربعة مساجد يهودية. هذه صورة فريدة لدمشق، تؤكد استثنائية هذه المدينة وروحها المنفتحة على كل الطوائف والإثنيات». لديه مشاريع تسجيلية أخرى عن جرائم الشرف، وحقوق المرأة، وتاريخ دمشق، يعتبرها نبيل المالح استراحة محارب، من دون أن يغمطها حقها كوجهة نظر سوسيولوجية لصورة المجتمع السوري اليوم: «نحن اليوم، أصغر مما كنّا في الأمس». هذا العبارة تؤرّقه على الدوام في فحص حياة المواطن السوري عبر التاريخ، وكيف تضاءل وجوده إلى الحدود الدنيا أمام المشهد الحضاري الذي صنعه خلال خمسة قرون، ويخلص إلى القول: «هناك خلل في معنى المواطنة».
عشرات الجوائز، ومشوار سينمائي مثقل بالأحلام والمشاريع والخيبات والترحال، وانتظار لحظة تضيئها العدسة على القاع السوري، فـ«الحياة الحقيقية التي تجاهلتها السينما السورية تكمن في القاع».


5 تواريخ

1936
الولادة في دمشق

1957
دراسة السينما في براغ ــــ تشيكوسلوفاكيا

1972
أول فيلم روائي طويل بعنوان «الفهد»: جائزة مهرجان لوكارنو السينمائي

1992
فيلم «كومبارس»: جائزة أفضل فيلم عربي في «بينالي السينما العربية» في باريس

2008
كرّمه «مهرجان أبو ظبي السينمائي»، وباشر تصوير «البيانو»