الضجيج يحيط بنا، نتعرض له في الشارع والمقاهي والنوادي الليلية، وفي بعض أماكن العمل. في الأسبوع العالمي للصوت الذي ينتهي في 25 الشهر الجاري يلفت الاختصاصيون إلى الآثار الجانبية للأصوات المكثّفة... بعضها قد يؤدي إلى فقدان السمع بطريقة تدريجية أو إلى انخفاض القدرة على التركيز

غادة دندش
من منّا لا يعاني التوتّر حين يجلس لفترة طويلة في أحد المقاهي المنتشرة اليوم في عاصمتنا، التي بات من الشائع فيها استخدام الآلات التي تصدر أصواتاً مزعجة جدّاً؟ ومن لا يدرك مدى الأذى الذي تلحقه أصوات أبواق السيّارات، في ساعات الزحمة الخانقة، والتي تصل إلى مكاتبنا ومنازلنا وتستمرّ دون توقّف حتى لو كنّا من سكّان الطوابق العليا.
«لا بأس» هو ردّ فعلنا الأول، أول ما يتبادر إلى الذهن حين نشعر بأننا محاطون بالضجيج، ونعتقد أن التوتّر الشديد الذي نعانيه بسبب أحوال البلاد والوضع الاقتصادي وغيرهما من المشاكل النفسية والاجتماعية هي الأسباب التي تجعلنا مفرطي الحساسية تجاه هذه الأمور في المدن. في الواقع يبدو أن هذا التبرير الشائع ليس دقيقاً من الناحية العلمية وأن العكس قد يكون صحيحاً. فبمناسبة الأسبوع العالمي للصوت الذي استمرّ حتى الخامس والعشرين من الشهر الجاري قام فريق من الباحثين الفرنسيين بتذكير المعنيين عبر صفحات الجرائد والمجلّات بواقع خطير يعانيه واحد من كل أربعة فرنسيين عاملين وهو أن ما يتعرّض له هؤلاء من كثافة صوت تبلغ 85 ديسيبل خلال ممارسة مهنهم يجعلهم ضحايا آثار جانبية شديدة الخطورة. والديسيبل وحدة قياس كثافة الصوت وهي تساوي 1\10 من الـ بيل التي تعني زيادة وحدة منها مضاعفة كثافة الصوت. من المضاعفات الخطيرة للتعرّض المتكرّر لهذه الأصوات فقدان السمع التدريجي وعدم القدرة على التقاط بعض الأصوات المحدّدة. ويضيف المقال الوارد على صفحات Futura-Sante أن حقيقة أن الأُذن هي كذلك مركز التوازن لدى الإنسان تضيف إلى لائحة الأضرار مجموعة من الاحتمالات كالتعب المزمن الشديد وانخفاض القدرة على التركيز بطريقة واضحة وبعض مظاهر فقدان الإحساس بالاتجاهات. كذلك يحذّر طبيب الأنف والأُذن والحنجرة في معهد الطبّ في جامعة كلود برنارد في مدينة ليون الدكتور جان كلود دوكلوس من أن التعرّض المتكرّر لأصوات بهذه الكثافة ومع مرور الزمن قد يؤدّي إلى فقدان السمع الكامل في سنّ لا تتجاوز الأربعين من العمر. لكن هذا النوع من «الطرش» خاص جدّاً، حيث إنه يحافظ على قدرة الإنسان على سماع الأصوات المنخفضة les sons graves بينما تعجز الأذن عن التقاط الأصوات المرتفعة sons aigus. وقد كانت الآلات السمعية عاجزة حتى وقت قريب عن مساعدة المصابين بهذا النوع من فقدان السمع لكن في الآونة الأخيرة سجّل التقنيون بعض التقدّم في أداء الأجهزة السمعية بحيث باتت تسمح بدخول الأصوات المرتفعة كذلك إلى الأذن المصابة. الحال في فرنسا تقتصر إلى حدّ كبير على بعض المهن مثل بعض أنواع المطابع ومعامل تصنيع الخشب ومصانع السيّارات ومناجم المعادن وغيرها. وتحمي الكثير من الدول مواطنيها من التعرض الإضافي للأصوات الكثيفة عبر قوانين صارمة منها منع استخدام أبواق السيّارات في مناطق محدّدة، ولا سيّما في الأحياء السكنية وبالقرب من المدارس والمستشفيات. كذلك تقوم الكثير من الجمعيات بمحاولة الحدّ من استخدام المقاهي في صالات استقبال الزبائن لأجهزة إعداد المشروبات على أنواعها، وخصوصاً تلك التي تصدر أصواتاً ذات كثافة عالية. كذلك ينصح الأطباء في هذه الدول العاملين في بعض المجالات باستخدام أنواع محدّدة من فيلترات الصوت المتوافرة على شكل أجهزة نضعها في الأُذن أو قبعات نرتديها على الرأس وتغطّي الأُذنين عازلةً بعض الأصوات الكثيفة. أما في لبنان، فيبدو أن هذه العملية غائبة تماماً عن اهتمام الرأي العام والمعنيين بالصحّة العامة، وذلك حتى في أبسط معالجاتها، أي ضبط استخدام أبواق السيّارات عبر تفعيل تطبيق القانون القائم سابقاً في هذا المجال. وفي بحث أجرته مجموعة من الاختصاصيين الفرنسيين ونشرته الـ Futura-Sante اتضح أن الاستماع إلى الموسيقى عبر مكبّرات الصوت لمدّة ساعات، وهو الأمر الذي يتكرّر في الملاهي الليلية والمراقص والكثير من المقاهي والمطاعم في الآونة الأخيرة، ويؤدي إلى إلحاق الأذى البالغ بالشعيرات السمعية التي تفقد تدريجياً من ليونتها بالرغم من غياب أي مؤشّر مرضي على ذلك قبل استفحال الحالة. يقول الاختصاصيون إن الإحساس بالخواء والطنين وفقدان القدرة على تمييز الأصوات، الذي يرافق الإنسان الذي خرج من مكان صاخب والذي يستمرّ لساعات ثمّ يختفي، ليس بريئاً كما نعتقد. إن غياب الإحساس بالحالة لا يعني نهاية تأثيرها على الشعيرات الصوتية، فهذه الأخيرة تتضرّر في كل مرّة بدرجة معيّنة وتفقد بعد ذلك نهائياً، في حال تكرار التجربة، قدرتها على ترجمة الأصوات التي تتلقّاها من الخارج. نتيجة هذا التلوّث الصوتي الذي نعانيه دون أي ضبط من السلطات المختصّة ودون إدراك منّا، أن الأُذن تشيخ قبل أوانها وتعجز عن تأدية معظم وظائفها الأساسية الضرورية لسير حياتنا الطبيعي.