ناهض حتر *أشعلت الحرب على غزة، حرباً أخرى في الأردن، بدأت عنيفة في أضخم تحركات جماهيرية شهدتها البلاد منذ وقت طويل، بل الأضخم عربياً بالنسبة إلى عدد السكان. لكن الأهم هو ما انبثق عن هذه الأيام الساخنة من تفاعلات تطال كل المكونات العميقة للسياسة الأردنية: الهوية الوطنية لفلسطينيي الأردن، وموقع الأردن في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، ونظام الحكم. وسأوجز في ما يأتي ملامح تلك التفاعلات.
فلسطينيو الأردن: منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو، تعاظمت ميول التوطن النهائي لدى فلسطينيي الأردن الذين أدركوا شيئاً فشيئاً أن مسار العملية السلمية، بغض النظر عن تعثره أو حتى نجاحه، لا يعنيهم ما دام يتجاهلهم. وبالمقارنة، فإن المواطنة ـــــ بحقوق كاملة ـــــ في دولة حديثة مزدهرة يحكمها القانون، هي مكتسب يصعب التفكير بالتخلي عنه لمصلحة العودة، حتى لو كانت متاحة، إلى العيش تحت حكم مافيا المليشيات في الضفة الغربية.
كانت تلك المقارنة الواقعية مع حق الاختيار، تحول بين أولئك الذين يستطيعون «قانونياً» العودة إلى الوطن، وتأتي بالعكس، بالمزيد من فلسطينيي الضفة إلى الأردن.
لكن ما كان ميولاً في العقد الأخير من القرن العشرين، تحوّل إلى تيار واسع في العقد الأول من القرن الحالي، إنْ بسبب فشل الانتفاضة الثانية أو بسبب جمود المفاوضات ثم تعثرها، أو بسبب سياسات التحوّل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في عهد الملك عبد الله الثاني. 43 بالمئة من المواطنين الأردنيين (حوالى ستة ملايين نسمة) هم فلسطينيون. فالأردن هو إذاً ثانية مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية بعد فلسطين نفسها. ووفقاً لتقسيم العمل التقليدي في البلد، ظل أغلب هؤلاء خارج القطاع العام، ناشطين في القطاع الخاص وفي الخليج (الذي يزوّد عائلات فلسطينيي الأردن بما يزيد عن ملياري دولار سنوياً)، ما جعل النخب الفلسطينية في البلاد تحقق صعوداً وانتعاشاً كبيرين في ظل سياسات اللبرلة الاقتصادية، بينما سمحت اللبرلة الاجتماعية بانحسار الدور القيادي للعشائر لمصلحة رجال الأعمال والمهنيين والملاكين الجدد في سوق العقارات الحديثة. وبالمحصلة، نشأت قوة اجتماعية/ سياسية فلسطينية ـــــ أردنية، بدأت تلعب دوراً سياسياً قيادياً، يحفزها برنامج واسع النطاق، متعدّد المستويات، قادَه الديوان الملكي مباشرة، لتشجيع فلسطينيي الأردن على الاندماج النهائي ككتلة «متأردنة». وفي هذا السياق، نشط الديوان لإحداث تحولات ثقافية، بدأت بإطلاق عملية سياسية تحت شعار «الأردن أولاً»، ثم «كلنا الأردن»، وهدفها قطع الصلة بين فلسطينيي الأردن والقضية الفلسطينية، وتحويل هؤلاء إلى «طائفة» داخلية تسعى إلى نوع من المحاصصة مع الأردنيين، على النحو اللبناني أو العراقي.
وفي ذروة الصراع السياسي الداخلي عام 2008، اتخذ ذلك الصراع طابع الانقسام بين طائفتين متضادتين طولياً، بحيث إن فقراء الفلسطينيين دعموا، على الضد من مصالحهم، نهج اللبرلة الاقتصادية، فيما دعمت النخب الأردنية المتضررة من الحكم المطلق، دعاواه، خوفاً من ديموقراطية من شأنها تهديد هوية الدولة.
هنا، وفي لحظة كان يُظَن فيها أن ذلك المشهد السياسي قد استقرّ، أطاحت الهبة الشعبية المتضامنة مع غزة عقداً كاملاً من برامج التوطين (والانقسام). لقد أظهر الأردنيون والفلسطينيون وحدتهم العميقة ضد العدو المشترك: إسرائيل، بينما استعاد الفريقان، بالمقابل، هويتيهما الوطنيتين، وانهارت في لحظة واحدة الهوية الثالثة المصطنعة التي بُذلت في اختلاقها سنوات وأموال وجهود سياسية وإعلامية وثقافية.
كان الأردنيون قد رفضوا مسبقاً تلك الهوية الثالثة الكوزموبوليتية القائمة على ثقافة المال والأعمال والانتماء إلى حيّز للنشاط الاقتصادي بلا ثقافة. كان تحويل الأردن، بالنسبة إليهم، إلى نموذج ثان من دبي مرفوضاً، بينما اكتشف الفلسطينيون أن لهم هوية ووطناً. إن صمود غزة ومقاومتها البطولية، منحتهما مرة أخرى الشعور بالاعتزاز الوطني، والأمل بتجديد المقاومة المتعددة الأشكال ضد العدو الإسرائيلي، وظهور قيادة فلسطينية موثوقة قادرة على إعادة توحيد الشعب الفلسطيني وراء قضيته. والقضية بالنسبة إلى فلسطينيي الأردن، تظلّ بالطبع، إمكان العودة الحرة إلى الوطن. وهذه القضية الغائبة عن الميدان الأردني منذ عقدين، سوف تصبح منذ الآن القضية المركزية في السجال السياسي في البلاد، ولم يعد ممكناً للسياسة الرسمية تجاهلها. لقد فشل برنامج دمج الفلسطينيين في البنية الأردنية. وهذه حقيقة كبرى سوف تضطر كل القوى للتفاعل معها. وهي لا تتناقض مع حقيقة أخرى، هي أن قسماً من فلسطينيي الأردن (يُعدّ بمئات الآلاف) قد اندمج فعلاً بصورة طبيعية وفردية وناجمة عن الاختيار الشخصيّ أو الترابط العائلي أو العشائري. هؤلاء أصبحوا أردنيين، لكن في سياق لا يؤثر على اتجاه الأغلبية نحو العودة إلى الذات. ماذا بعد الشلل السياسي؟ بينما كان الأردنيون والفلسطينيون يعيدون في الشارع ترتيب علاقات الوحدة والتمايز، ويستعيدون أولوية الصراع مع العدوّ الصهيوني المشترك، كان مطبخ القرار السياسي الأردني مشلولاً إزاء خيارات حادة. عمان، في هذه الحرب، لم تكن في قلب الحدث، متجاهَلة من جانب المحورين المتصارعين إقليمياً، بينما هي تسعى إلى استرضاء الجميع. التخطيط للحرب على غزة جرى بين رام الله والقاهرة والرياض وتل أبيب، من دون التنسيق مع عمان، بل على الضدّ من إرادتها ومن تحذيرها الشديد الغاضب من العواقب. أملت عمّان بقوة فشل العدوان، وأتاحت للجماهير الغاضبة التعبير عن جزء من الغضب الرسمي أيضاً، من خلال منح تسهيلات استثنائية للإخوان المسلمين للقيام بنشاطات لها طابع شبه رسمي، كالمهرجان الشعبي في ملعب العاصمة مثلاً. إن حقيقة أن المقاومة الفلسطينية في غزة إنما تدافع عن الكيان الأردني المطلوب رأسه إسرائيلياً و«سلطوياً»، كانت ماثلة لكل القوى السياسية في البلاد. ومع ذلك، لم يتمكن الملك عبد الله الثاني من المشاركة في مؤتمر غزة في الدوحة، بسبب ضغوط أميركية وسعودية ومصرية وضعته أمام خيار حادّ: معنا أو معهم!
التناقض بين استهداف الأردن من جانب سياسات المحور الأميركي ـــــ العربي ـــــ الإسرائيلي من جهة، وشبكة الروابط والعلاقات الأردنية مع ذلك المحور، تضع القرار السياسي الأردني في مأزق ليس لدى النخبة السياسية المسيطرة الخيال أو القدرة أو العزيمة على معالجته، بل تقوم بتصريف الوقت، يوماً بيوم. وفي مواجهة الفشل الاقتصادي والسياسي في الداخل، والمؤامرة من الخارج، يعاني الأردن فراغاً سياسياً يمثّل تهديداً إضافياً، بل التهديد الرئيسي. فالتاريخ لا ينتظر المشلولين.
هناك جملة من البرامج التي تفرضها الضرورات الوطنية على الأردن، وهي:
1ـــ إعادة بناء التحالف الاجتماعي الوطني على أساس اقتصاد متمحور على الذات، وقادر على مواجهة المشكلات الحادة كالفقر المائي وتعطّل القدرات الإنتاجية والمنجمية، والمبادرة إلى مشاريع وطنية كبرى قادرة على التشغيل وتفعيل الطاقات الإنتاجية والإبداعية.
2ـــ انتهاج سياسة خارجية مستقلة ومعبرة عن المصالح الوطنية، تركّز على قضية عودة اللاجئين بوصفها القضية المركزية للبلاد.
3ـــ بناء مظلة صاروخية وقوات خاصة غير تقليدية لمجابهة عدوان إسرائيلي يظل محتملاً، بل تزيد احتمالاته يوماً إثر يوم، خصوصاً أن الصراع مع إسرائيل (التي ليس لها أفق للبقاء دولة يهودية من دون تحويل الأردن إلى وطن بديل) سوف يحتدم عاجلاً أو آجلاً. والوقت المتاح الآن هو وقت التسلّح وإعادة بناء القوات المسلحة وتجديد عقيدتها الدفاعية وخططها في مواجهة العدو الإسرائيلي.
على أن ذلك ليس ممكناً في ظل سياسات اللبرلة الاقتصادية التي وضعت موارد الدولة في خدمة أقلية من رجال الأعمال، بينما حوّلت أغلبية الأردنيين، ومنهم ضباط الجيش، إلى فقراء.
الملكية الدستورية: الدولة الأردنية، على المستوى الدستوري، هي ملكية دستورية بالفعل. ويُعدّ دستور 1952 معقولاً لجهة توزيع السلطات وتقييد الصلاحيات. لكن هذا الدستور خضع منذ 1957 إلى جملة من التعديلات والانتهاكات والسوابق التي عطلت أدواته الديموقراطية، ومنحت الملك سلطات استثنائية، تمتع الملك حسين بها بوصفه زعيماً أكثر من كونه ملكاً.
وبعد رحيله، طرحت شخصيات وقوى عدة، مرة أخرى، ضرورة العودة إلى دستور 1952 كحد أدنى نحو بناء ملكية دستورية على النمط الغربي. لكن إقدام مئة شخصية أردنية مستقلة من اتجاهات مختلفة، على توقيع وثيقة تطالب بالملكية الدستورية في ظل الهبة الجماهيرية المتضامنة مع غزة، وفي ظل شلل القرار السياسي إزاء الأزمات الحاصلة، أعطى لتلك الوثيقة ثقلاً وصدقية، وكأنها جاءت في وقتها بالضبط، لكي تجيب عن السؤال المطروح بشأن مضمون نظام الحكم الضروري، وآليات اتخاذ القرار الوطني في المرحلة المقبلة، وفي مواجهة تحدياتها.
على المستوى الرسمي، هناك تجاهل وصمت إزاء التفاعلات السياسية في البلاد، لكنه بلا أرضية ولا معنى. فالأردن يواجه معركة وجود لن يربحها من دون إعادة بناء الدولة واقتصادها وسياساتها وقدراتها العسكرية وثقافتها.
ومن الواضح أنه لا النخبة المسيطرة الآن قادرة على القيام بتلك المهمة، ولا آليات القرار الحالية قادرة على مواجهة المأزق، بحيث إن الحل العقلاني الوحيد الممكن هو تمكين الشعب من حكم نفسه بنفسه، ومواجهة تحديات مصيره.
* كاتب وصحافي أردني
ـ